بحث في الظن وتفسيره والعمل به
  فهذه الآيات وما شابهها من القرآن الكريم - الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه - تدل على صحة إطلاق الظن على الاعتقاد المطلق سواء كان عن وهم أو شك أو تماني أو عن الهوى أو نحو ذلك، وإن خالف المعلوم والواقع والراجح، ولهذا صحت نسبة الخرص - وهو الكذب - إلى قائله، فَقُبْح الظن هنا ليس لذاته بل لأنه اعتقاد فاسد لا دليل عليه سوى ما ذكرناه مما ليس بدليل، ومع مصادمته للمعلوم والواقع والحق، ولو كان لذاته لم يمدح متبعه فيما ثبت دليله وطابق الواقع، ولَمَا كان بعضه إثماً دون بعض.
  وأما ما ورد في القرآن الكريم في صحة العمل بالظن من مدح للعامل به أو تقرير أو نحو ذلك مما كان اعتقاداً صحيحاً لمطابقة الواقع وصحة دليله:
  قوله تعالى في سورة البقرة: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ ٤٥ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ٤٦}[البقرة]، فاعتقادهم هذا المسمى بالظن صحيح لمطابقته الواقع وثبوت دليله.
  ومثله قوله تعالى في سورة البقرة: {قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو الله كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله}[البقرة: ٢٤٩]، وهذا في مقام المدح لهم والتقرير ومطابقته للحق.
  وقوله سبحانه في سورة الحاقة: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ ١٩ إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ ٢٠}[الحاقة]، كذلك.
  ونحو ذلك مما ورد في القرآن مقرراً ومستحسناً وخالياً عن الذم ومطابقة بعضه للواقع ولم يعارض دليلاً مثل:
  قوله تعالى في سورة الأعراف: {وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} ... إلخ [الأعراف: ١٧١].
  وقوله في سورة يونس: {وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا الله}[يونس: ٢٢].
  وفي الإسراء: {وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَافِرْعَوْنُ مَثْبُورًا ١٠٢}[الإسراء].
  وفي سورة يوسف: {وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ}[يوسف: ٤٢].
  وفي سورة الكهف: {وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا ٥٣}[الكهف].