(فصل): في معاملة الظلمة
  رجل رحل لطلب العلم في عنفوان شبابه وترك ما كان عليه من زهرة الدنيا وبهجتها رجاء لحسن إيابه، مال عن بهجة العيش الهني ونضارته إلى كسب ما يفلح به في الدارين من تجارته، ووصل مدينة ذمار المحمية بالله فقرأ بها على صدروها الأعلام، وارتضع لبان العلوم من ثدي مرضعه وحبذا الطعام، كالوالد العلامة زين المدرسين، وأستاذ أهل الرسوخ، ينبوع المحققين، كعبة حج الطالبين، ومشعر لين الوفاد لطلب العلم المجدين، يحيى بن عبدالرحيم بن سعيد العنسي، بل الله ثراه بوابل الرحمة والرضوان، وكالوالد العلامة التقي فرع دوحة التشيع المثيل، ونقطة بيكار مدرسي علومهم النبيل، الألمعي الذي إذا ظن بك الظن كأن قد رأى وقد سمع، فارس ميدان التحقيق، قطب رحى الفهامة والتدقيق، أحمد بن أحمد بن محمد بن حسن العنسي عافاه الله وأطال للإسلام والمسلمين بقاه، آمين، وعلى سائر مشائخ أهلها المحققين، مقيداً لما التقطه من نظام فوائدهم الفرائد، حريصاً على اجتناء تلك الجواهر الخرائد، مكباً على تحصيل زاد المعاد في أوقاته البكر والأصيل، مبتذلاً للرقاد بذكاء ونشاط، ومحافظة على جميع أوقاته على درسه ورباط، حتى ارتقى في ارتفاعه الغاية، وحصل له من محصول طلبه ما يرتجيه من النهاية.
  ورحل أيضاً لطلب العلم إلى مدينة صنعاء اليمن، وقرأ على مشائخها الأعلام، فاقتطف من ثمار فكاهتهم، وانتحل ما يريد من دستور علومهم ما يقر به الخاطر ويسر لرؤيته الناظر، فحاز حظاً وافراً من العلوم، وأتقن مباحث العلم المعقول منها والمنقول، ففي الفقه لم يتجل لأحد كتجليه، ولا انقاد لأحد كانقياده له، فهو فارس ميدانه الخبير، وواسطه عقد نظامه النضير، ولا نظير له أزيد، وكذلك في علم الفرائض والنحو وأصول الدين وغيرها من سائر الفنون، أخذ من جميع ذلك حظاً حسناً وحصة كريمة صار بها على أقرانه سناناً، ورحل أيضاً إلى إمام العصر المؤيد بالله إن شاء الله بالنصر أبي أحمد المتوكل على الله المحسن بن أحمد،