صدق
  وإمّا أن يوصف تارة بالصّدق، وتارة بالكذب على نظرين مختلفين، كقول كافر إذا قال من غير اعتقاد: محمّد رسول اللَّه، فإنّ هذا يصحّ أن يقال: صِدْقٌ، لكون المخبر عنه كذلك، ويصحّ أن يقال: كذب، لمخالفة قوله ضميره، وبالوجه الثاني إكذاب اللَّه تعالى المنافقين حيث قالوا: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله ... الآية}[المنافقون: ١]، والصِّدِّيقُ: من كثر منه الصّدق، وقيل: بل يقال لمن لا يكذب قطَّ، وقيل: بل لمن لا يتأتّى منه الكذب لتعوّده الصّدق، وقيل: بل لمن صدق بقوله واعتقاده وحقّق صدقه بفعله، قال: {واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّه كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا}[مريم: ٤١]، وقال: {واذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّه كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا}[مريم: ٥٦]، وقال: {وأُمُّه صِدِّيقَةٌ}[المائدة: ٧٥]، وقال: {فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَداءِ}[النساء: ٦٩]، فَالصِّدِّيقُونَ هم قوم دُوَيْنَ الأنبياء في الفضيلة على ما بيّنت في «الذّريعة إلى مكارم الشّريعة»(١). وقد يستعمل الصّدق والكذب في كلّ ما يحقّ ويحصل في الاعتقاد، نحو: صدق ظنّي وكذب، ويستعملان في أفعال الجوارح، فيقال:
  صَدَقَ في القتال: إذا وفّى حقّه، وفعل ما يجب وكما يجب، وكذب في القتال: إذا كان بخلاف ذلك.
  قال: {رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا الله عَلَيْه}[الأحزاب: ٢٣]، أي: حقّقوا العهد بما أظهروه من أفعالهم، وقوله: {لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ}[الأحزاب: ٨]، أي: يسأل من صدق بلسانه عن صدق فعله تنبيها أنه لا يكفي الاعتراف بالحقّ دون تحرّيه بالفعل، وقوله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَه الرُّؤْيا بِالْحَقِّ}[الفتح: ٢٧]، فهذا صِدْقٌ بالفعل وهو التّحقّق، أي: حقّق رؤيته، وعلى ذلك قوله: {والَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وصَدَّقَ بِه}[الزمر: ٣٣]، أي: حقّق ما أورده قولا بما تحرّاه فعلا، ويعبّر عن كلّ فعل فاضل ظاهرا وباطنا بالصّدق، فيضاف إليه ذلك الفعل الذي يوصف به نحو قوله: {فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ}[القمر: ٥٥]، وعلى هذا: {أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ}[يونس: ٢]، وقوله: {أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ}[الإسراء: ٨٠]، {واجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الآخِرِينَ}[الشعراء: ٨٤]، فإنّ ذلك سؤال أن يجعله اللَّه تعالى صالحا، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن ذلك الثّناء كذبا بل
(١) انظر: الذريعة ص ٧١، باب أصناف الناس.