البكاء في المحراب
٢٣ - البكاء في المحراب
  هذا الاسم من صفاته الغالبة، وسماته الظاهرة وأحواله # في خشوعه وخضوعه معروفة، وفي رواية ضرار الضبابي(١) حين قال له معاوية: يا ضرار صف لي عليّاً، قال: اعفني، قال: لتصفنّه، قال: أما إذا لابدّ من وصفه: فكان والله بعيد المدى، شديد القوى، يقول فصلاً، ويحكم عدلاً، ينفجر العلم من جوانبه. وتنطق الحكمة من نواحيه، يستوحش من الدنيا وزهرتها، ويأنس بالليل ووحشته، وكان غزير العبرة، طويل الفكرة، يعجبه من اللباس ما قصر، ومن الطعام ما خشن، كان فينا كأحدنا، يجيبنا إذا سألناه، وينبثنا إذا استنبأناه، ونحن والله مع تقريبه إيّانا وقربه منّا، لا نكاد نكلمه هيبةً له، يعظّم أهل الدين، ويقرّب المساكين، لا يطمع القويّ في باطله، ولا ييأس الضعيف من عدله، وأشهد لقد رأيته في بعض مواقفه، وقد أرخى الليل سدوله وغارت نجومه قابضاً على لحيته يتململ تململ السليم، ويبكي بكاء الحزين، ويقول: «يا دنيا غرّي غيري، ألي تعرّضت أم إليَّ تشوقت، هيهات هيهات قد طلقتك ثلاثاً لا رجعة لي فيها، فعمرك قصير، وخطرك قليل، آه من قلّة الزاد. وبعد السفر، ووحشة الطريق»(٢).
  فبكى معاوية وقال: رحم الله أبا حسن، كان والله كذلك، فكيف حزنك عليه يا ضرار؟، قال: حزن من ذبح ولدها على صدرها(٣).
  وفي كلامه # من هذا القبيل ما لا يحصى كثرةً، ولو نذكره على التفصيل لأخرجنا إلى التطويل.
  ومن جملة كلامه في كتابه إلى عثمان بن حنيف وكلّه حسن لولا محبّة الاختصار، قال #: «ولأدعنّ مقلتي كعين ماء نضب معينها، مستفرغةٌ دموعها، أتمتليء السائمة من رعيها فتبرك، وتشيع الرّبيضة من عيشها فتربص، ويأكل عليٌّ من زاده فيهجع؟ قرّت إذاً عينه إذا اقتدى بعد السنين المتطاولة بالبهيمة المهملة والسائمة المرعية»(٤).
(١) ذكر صاحب الحدائق الورديّة عن محمد بن السايب، عن أبي صالح قال: دخل ضرار بن ضمرة الكناني بدل: الضيايي، ص ٣٢.
(٢) نهج البلاغة، ص ٤٨١، الحكمة ٧٧.
(٣) الاستيعاب، ٣/ ١١٠٧ و ١١٠٨؛ الحدائق الورديّة، ص ٣٢.
(٤) نهج البلاغة، ص ٤١٩ - ٤٢٠، الكتاب ٤٥.