روائع الخطب المنبرية للجمع والأعياد والمناسبات الدينية،

إبراهيم الدرسي (معاصر)

37 - حول الدنيا وحالات الحشر وحقيقة الإسلام

صفحة 307 - الجزء 2

  وإنَّ ضُرَّها وبؤسَها إلى نفاد، وكلُّ مدة منها إلى منتهى، وكلُّ حيٍّ منها إلى فناء وبلاء، أَوَ ليس لكم في آثار الأولين مزدجرٌ، وفي آبائكم الماضين تبصرة ومعتبرٌ إن كنتم تعقلون.

  ألم تروا إلى الماضين منكم لا يرجعون، وإلى الخلف الباقين منكم لا يَبْقَوْنَ، قال الله تبارك وتعالى: {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ ٩٥}⁣[الأنبياء]، وقال تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ١٨٥}⁣[آل عمران]، أَوَ لستُم ترون إلى أهل الدنيا وهم يُصبحون ويمسون على أحوالٍ شَتَّى:

  فميتٌ يَبْلَى، وآخرُ يُعَزَّى، وصريعٌ يَتَلَوَّى، وعائدٌ ومَعُودٌ، وآخرُ بنفسه يجودُ، وآخرُ يُبَشَّرُ ويُهَنَّأ، وطالبُ الدنيا والموت يطلبُهُ، وغافلٌ وليس بمغفول عنه، وعلى أثرِ الماضينَ يمضي الباقون، والحمد لله رب العالمين، رب السماوات السبع ورب الأرضين السبع ورب العرش العظيم، الذي يبقى ويفنى ما سواه، وإليه يؤولُ الخلقُ ويرجعُ الأمرُ.

  أيها المؤمنون: أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي أَعْذَرَ بِمَا أَنْذَرَ، وَاحْتَجَّ بِمَا نَهَجَ، وَحَذَّرَكُمْ عَدُوّاً نَفَذَ فِي الصُّدُورِ خَفِيّاً، وَنَفَثَ فِي الْآذَانِ نَجِيّاً، فَأَضَلَّ وَأَرْدَى، وَوَعَدَ فَمَنَّى، وَزَيَّنَ سَيِّئَاتِ الْجَرَائِمِ، وَهَوَّنَ مُوبِقَاتِ الْعَظَائِمِ، حَتَّى إِذَا اسْتَدْرَجَ قَرِينَتَهُ، وَاسْتَغْلَقَ رَهِينَتَهُ، أَنْكَرَ مَا زَيَّنَ، وَاسْتَعْظَمَ مَا هَوَّنَ، وَحَذَّرَ مَا أَمَّنَ.

  أَمْ هَذَا الَّذِي أَنْشَأَهُ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْحَامِ، وَشُغُفِ الْأَسْتَارِ، نُطْفَةً دِهَاقاً، وَعَلَقَةً مِحَاقاً، وَجَنِيناً وَرَاضِعاً، وَوَلِيداً وَيَافِعاً، ثُمَّ مَنَحَهُ قَلْباً حَافِظاً، وَلِسَاناً لَافِظاً، وَبَصَراً لَاحِظاً، لِيَفْهَمَ مُعْتَبِراً، وَيُقَصِّرَ مُزْدَجِراً، حَتَّى إِذَا قَامَ اعْتِدَالُهُ، وَاسْتَوَى مِثَالُهُ، نَفَرَ مُسْتَكْبِراً، وَخَبَطَ سَادِراً، مَاتِحاً فِي غَرْبِ هَوَاهُ، كَادِحاً سَعْياً لِدُنْيَاهُ فِي لَذَّاتِ طَرَبِهِ، وَبَدَوَاتِ أَرَبِهِ، ثُمَّ لَا يَحْتَسِبُ رَزِيَّةً، وَلَا يَخْشَعُ تَقِيَّةً، فَمَاتَ فِي فِتْنَتِهِ غَرِيراً، وَعَاشَ فِي هَفْوَتِهِ يَسِيراً، لَمْ يُفِدْ عِوَضاً، وَلَمْ يَقْضِ مُفْتَرَضاً، دَهِمَتْهُ فَجَعَاتُ الْمَنِيَّةِ، فِي غُبَّرِ جِمَاحِهِ، وَسَنَنِ مِرَاحِهِ، فَظَلَّ سَادِراً، وَبَاتَ سَاهِراً، فِي غَمَرَاتِ الْآلَامِ، وَطَوَارِقِ الْأَوْجَاعِ وَالْأَسْقَامِ، بَيْنَ أَخٍ شَقِيقٍ، وَوَالِدٍ شَفِيقٍ، وَدَاعِيَةٍ بِالْوَيْلِ جَزَعاً، وَلَادِمَةٍ لِلصَّدْرِ قَلَقاً، وَالْمَرْءُ فِي سَكْرَةٍ مُلْهِثَةٍ، وَغَمْرَةٍ كَارِثَةٍ، وَأَنَّةٍ مُوجِعَةٍ، وَجَذْبَةٍ