روائع الخطب المنبرية للجمع والأعياد والمناسبات الدينية،

إبراهيم الدرسي (معاصر)

2 - حول بداية السنة الهجرية

صفحة 28 - الجزء 1

  ثُمَّ تَشَاوَرُوا في أَيِّ الأشهُرِ يَبدَأُ التاريخُ؟

  فقالَ بعضُهُم: مِن رَمَضَان، وَقَالَ آخرونَ: من رَبيعِ الأوَّلِ، لأنَّهُ الشَّهرُ الذي وقعتْ فيهِ الهجرةُ، وقال بعضُهم: من المحرَّمِ، فاتفقوا على المحرَّمِ؛ لأنَّه شهرٌ حَرَامٌ، ولِأَنَّهُ يلي ذَا الحَجَّةِ الذي فيه أدَاءُ الناسِ لِحَجِّهم، الذي بِهِ تمامُ أركانِ الإسلامِ، لِأَنَّ الحجَّ آخرُ ما فُرِضَ من الأركان الخمسَةِ، ولِأَنَّه الشهرُ الذي بَايَعَ فيهِ النبيُّ ÷ الأنصارَ في بَيعَةِ العَقَبَةِ على الهِجرَةِ والنُّصْرَةِ، وتِلكَ المبايعةُ مِن مقدَّمَاتِ الهجرةِ، فكانَ أولَى الشهورِ بالأَوَّلِيةِ شهرُ اللهِ المحرمِ.

  فالتاريخُ الهجريُّ تاريخٌ مرتَبِطٌ بالدِّينِ ووُضِع من أجله، فَبِهِ تُربطُ أحوالُ الزكاةِ، وآجالُ الدُّيونِ، والرِّهَانِ، وعدةُ المرأةِ، ومُدَّةُ الإحدَادِ والإيلاءِ وغيرُ ذلك؛ ولهَذَا قَالَ تعَالَى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ}⁣[يونس: ٥]، وَهُوَ مُتَعَلِّقٌ بمُنَاسَبَاتٍ دينيةٍ عظيمةٍ تَتَكَرَّرُ كُلَّ عامٍ، مِنْ صِيامٍ وزكاةٍ وحَجٍّ وغيرِها، وهو مُرْتَبِطٌ بالشَّهْرِ القَمَرِيِّ الذي هو ظاهرٌ للناسِ كَافَّةً، معلومٌ وقتُ دخولِهِ ووقتُ خُرُوجِهِ، يَعرِفُهُ المتَعَلِّمُ والعَامِيُّ والأُمِّيُّ، والذي في القُرَى بينَ النَّاسِ والذي في البَادِيَةِ لِوَحْدِهِ، وهذَا مِن رحمةِ اللهِ وتيسيرِهِ لعبادِهِ.

  فَالتاريخُ المعمولُ بهِ بين المسلمين هُوَ التاريخُ الهجريُّ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يلتفتَ المسلمون إلى غيرهِ من التواريخِ الأُخرَى، لِأَنَّنَا أُمَّةٌ مُتَمَيِّزَةٌ، لَكِنْ لَمَّا دَبَّ الوَهَنُ والضَّعْفُ في الأمةِ الإسلاميةِ وأَصَابَهَا العجزُ والكسلُ، وتَسَلَّطَ عليهَا أعداؤهَا وأذنَابُهُم من المنافقين سَلَكُوا طريقَ استبدالِ التَّارِيخِ الهجريِّ بالتاريخِ الميلادي؛ مُدَّعِينَ بِأَنَّ التاريخَ الميلاديَّ مُنَظّمٌ ومعروفٌ لِسِنِينَ قَادِمَةٍ، والعالمُ كلُّهُ يُؤرّخُ بِهِ، بينَمَا الهجريُّ مُرتَبِطٌ بالقَمَرِ وَيَصْعُبُ الإعتمَادُ عَلَيهِ، وهذا كَذِبٌ وبُهْتَانٌ؛ فإنَّ التَّارِيخَ الميلَادِيَّ لَا يُمكِنُ أَنْ يَحِلَّ مَحَلَّ التارِيخِ الهجرِي؛ لِمَا بَينَهُمَا مِن تَبَايُنٍ واختلافٍ يَمَسُّ جانبَ الدينِ والهويةِ.

  أَمَّا جَانِبُ الدينِ: فإنَّ الميلَادِيَّ مرتبطٌ بِدَينَينِ بَاطِلَينِ: