4 - في معنى الإخلاص
  لأن من أحب الدنيا اشتغل بها عن الأعمال الصالحة، وألهته عن الطاعات، وكانت أعماله تبعاً لشهواته، ومطابقة لرغباته، فلا يقوم بالفريضة والواحب إلا إذا كان القيامُ بها موافقاً لشهوته، أما إذا كانت خلاف ذلك فهو يرجح الشهوة على الطاعة، يترك العبادة في مقابل أن ينام، يترك الصلاة خوفاً من البرد أو من الحر.
  فالإنسان إذا كان محباً للدنيا فحبه للدنيا يجذب نيَّته وإرادته وهمته إلى الدنيا وعزها وشرفها وعلوها، وارتفاع المنزلة عند أهلها، ويمنعه ذلك من الإخلاص، ويجره إلى الرياء، وإلى حب المدح، وخوف الذم، وسقوط المنزلة، ومهما كان معرضاً عن الدنيا عظيم الرغبة في الآخرة وثوابها ونعيمها، خائفاً من عملها، كان همه وإرادته ونيته في الآخرة، ولم يكن له همٌّ سوى الآخرة والعمل لها، فيجذبه ذلك إلى الإخلاص في العمل لله تبارك وتعالى، لأن أصل الإخلاص هو الباعث والمحرك على العمل.
  وطول الأمل يجعل الإنسان مؤملاً أن يطول عمره، فهو ينسى الموت، ونسيانه للموت يجعله يهمل الطاعات، ويبتعد عنها، ولا يهتم بها لأنه يؤمل أنه سيعيش مدة طويلة حتى يحسن العمل، وسببُ طولِ الأملِ هو الغفلةُ عن الموت، فإذا غفلَ الإنسانُ عن الموت طال أملُه، وإذا طال أملُه أحبَّ الدنيا وزينتها وشرفها وشهواتها، فيجذبه ذلك إلى الرياء والعمل لها.
  والطريق إلى الإخلاص في العمل هو: ذكر الموت، بأن يكثر العبد ذِكرَ أشكالِه وأقرانه الذين مضوا قبله، فيذكر موتهم ومصارعهم تحت التراب، ويتذكر صورهم في مناصبهم وأحوالهم، ويتأمل كيف محى الترابُ محاسنَ صُوَرِهم، وكيف تبددت أجزاؤهم في قبورهم، وكيف أرملوا نسائهم، وأيتموا أولادهم، وضيعوا أموالهم، وخلت منهم مساجدُهم ومجالسُهم، وانقطعت آثارُهم، ويتذكر أيضاً حال كل واحد منهم قبل موته، وكيف كان نشاطه في طلبِ الدنيا وترددِه فيها، وكيف كان أملُه للعيش واشتياقُه إليه، ونسيانُه