36 - موعظة بليغة في الموت
  فالموت لا ينجو منه ملك ذو أجناد، ولا رئيس له عساكر وقواد، ولا يسلم منه ذو قوة في بدنه وجسمه، ولا ذو كثرة في أهله وولده وعدده، ولا ذو وفرة في ماله، ولا ذو بسطة وسعة في سلطانه، لو نجا منه أحد لنجت منه الفراعنة الشداد، وقوم ثمود وعاد، ولكنه هجم على القياصرة فأبادهم، وعلى الأكاسرة فأماتهم، وعلى الجبابرة فأزالهم، فالموت لا يخشى من أحد، ولا يُبقي على أحد، يهجم على الشاب الفتي، والفارس القوي، والطفل الرضيع، لا يرحم ولا يداهن أحداً.
  أيها المؤمنون: الموت كلمة ترتج لها القلوب، وتقشعر منها الجلود، وتفزع لها الألباب، وتذرف لها العيون دموعها، فالموت على وضوحه وبيانه، وظهور آثاره، سر من أسرار الله، حير العقول، وأذهل الألباب، ترك الفلاسفة مبهوتين، والأطباء مدهوشين، وجميع الناس في أمره متحيرين، فنسيان الموت ضلال مبين، وترك الإستعداد له بلاء وغفلة، فعلا بد أن نزيل الغفلة والران، وأن نعالج منا ذلك النسيان بتذكر الموت واستشعاره، والإعداد له قبل حضوره.
  أيها المؤمنون: لا بد أن يجعل الإنسان في ذاكرته، وأن يستشعر في حالاته، تغير الدنيا وتقلب حالاتها، وتنكره وتصرفاتها، وأن يتذكر في نفسه ما لا بد له منه.
  فتذكر أيها المسلم الكريم بينما أنت في أهلك وبين أولادك، منعماً سعيداً، في عيش رغيد، وصحة وسرور، تجر ثياب العافية، متمتعاً بقوتك وشبابك، لا يخطر لك الضعف والفتور على بال، ولا تفكر في الموت في تلك الحال، إذ هجم عليك المرض، وجاءك الضعف والوهن بعد القوة، وحلّ منك الهم محل الفرح، وتحول الصفاء إلى الكدر، والفرح إلى الحزن والترح، وأصبحت لا تتأنس بجليس، ولا ترتاح إلى أنيس، قد سئمت أشياء كثيرة كنت ترغب إليها في حال صحتك، وأنت تفكر في عمر قد أفنيته، وشباب قد أفنيته، ومال قد جمعته، وبيت قد بنيته، وولد قد خلفته، وتفكر في الدنيا ولذاتها، وتتألم علة ما يفوتك من شهواتها، قد اجتمعت عليك حسرة الفوت لما قد فاتك من الفرصة، وسكرة الموت التي يصيبك منها الغصة، وأنت تتمنى الشفاء، وتطلب العلاج والدواء، ولكن الداء قد استفحل، والمرض منك