36 - موعظة بليغة في الموت
  فَحَتَّامَ على الدنيا إقبالُكَ، وبشهواتِهَا اشتغَالُكَ، وقد وخَطَكَ القَتِيرُ، وأتَاكَ النَّذِيرُ، وأنت عَمَّا يُرَادُ بك سَاٍه، وبِلَذَّةِ نَومِكَ لَاهٍ.
  وفي ذِكرِ هولِ الموتِ والقبرِ والبِلَا ... عن اللهوِ واللذَّاتِ للمرءِ زَاجِرُ
  أبعدَ اقتِرَابِ الأربعينَ تَرَبُّصٌ ... وشَيبُ قُذَالٍ مُنْذِرُ لَكَ كَاسِرُ
  كَأنَّكَ تُعْنَى بالذي هُو صَائِرٌ ... لنفسِكَ عَمدَاً أو عن الرُّشْدِ حَائِرُ
  انظرْ إلى الأممِ الماضيةِ، والملوكِ الفانيةِ، كيف أَفْنَتْهُمُ الأيَّاُم، وأفناهُمُ الحِمَامُ، فانمحَتْ من الدنيا آثارُهُم، وبَقِيت فيها أخبارُهُم، وأضْحَوْا رِمَمَاً في التُّرَابِ، إلى يوم الحشرِ والمآبِ.
  وأَضْحَوْا رَمِيمَاً في التُّرَابِ وَعُطِّلَتْ ... مَجَالِسُ مِنْهم أَقْفَرَتْ ومَقَاصِرُ
  وَحَلُّوا بِدَارٍ لَا تَزَاوُرُ بينَهُم ... وأَنَّى لِسُكَّانِ القبورِ التَّزَاوُرُ
  فَمَا إِنْ تَرَى إلا قُبُوراً ثَوَوْا بِهَا ... مُسَطَّحَةً تَسفِي عليهَا الأَعَاصِرُ
  كم ذي مَنَعَةٍ وَسُلطَانٍ، وجُنُودٍ وأَعوانٍ، تَمَكَّنَ مِن دُنيَاهُ، ونَالَ فِيهَا مَا تَمَنَّاهُ، وبَنَى القُصُورَ والدَّسَاكِرَ، وجَمَعَ الأَعلَاقَ والأموالَ والذَّخَائِرَ، ومِلَحَ السراري والحرائرَ.
  فمَا صَرَفَتْ كَفَّ المَنِيَّةِ إذ أَتَتْ ... مُبادِرَةً تَهوي عَليه الذَّخَائِرُ
  ولا دَفَعَتْ عنه الحصونُ التي بَنَى ... وَحَفَّ بِهَا أَنهَارُهُ والدَّسَاكِرُ
  وَلا قَارَعَتْ عَنْهُ المَنِيَّةَ خَيْلُهُ ... وَلَا طَمِعَت في الذَّبِّ عنه العَسَاكِرُ
  أتَاهُ مِنَ اللهِ ما لَا يَرَدُّ، ونَزَلَ به من قضَائِهِ ما لَا يُصَدُّ، فتعالى اللهُ الملِكُ الجَبَّارُ، المتكبرُ القهارُ، قاصِمُ الجبَّارِينَ، ومُبِيرُ المتَكَبِّرِينَ، الذي ذل لعزِّهِ كلُّ سلطان، وأباد بقوته كلَّ دَيّان.
  مَلِيكٌ عزيزٌ لا يُرَدُّ قَضَاؤُهُ ... حَكِيمٌ عَلِيمٌ نَافِذُ الأمرِ قَاهِرُ
  عَنَى كُلُّ ذِي عِزٍّ لِعِزَّةِ وجهِهِ ... فكُلُّ عَزِيزٍ للمهيمِنٍ صَاغِرُ
  لَقَد خضَعَتْ واستَسْلَمَتْ وتَضَاءَلَتْ ... لِعِزَّةِ ذِي العرشِ الملُوكُ الجَبَابِرُ