الثالث عشر: الخطب المتعلقة بالمواعظ البليغة (حول الدنيا والموت والقيامة والجنة والنار)
  فَالبِدَارَ البِدَارَ، والحِذَارَ الحِذَارَ، من الدنيا ومَكَائِدِهَا، ومَا نَصَبَتْ لَكَ مِنْ مَصَائِدِهَا، وتَحَلَّتْ لَكَ من زِيْنَتِهَا، وأَظْهَرَت لك من بَهْجَتِهَا، وأبرزَتْ لك من شهواتها، وأخفت عنك من قَوَاتِلِهَا وهَلَكَاتِهَا.
  وفي دُونِ ما عَاينْتَ مِنْ فَجَعَاتِهَا ... إلى رَفضِهَا دَاٍع وبالزُّهدِ آمِرُ
  فَجُدَّ ولَا تَغْفَلْ فَعيشُكَ زَائِلٌ ... وأنت إلى دَارِ الإِقَامَةِ صَائِرُ
  ولا تَطْلُبِ الدُّنيَا فَإِنَّ طِلَابَهَا ... وإِن نِلتَ منها غُبَّةً لكَ ضَائِرُ
  وهلْ يَحرِصُ عليها لَبِيبٌ، أو يُسَرَّ بِها أَرِيبٌ، وهو على ثَقَةٍ من فَنَائِها، وغَيرُ طامِعٍ في بَقَائِهَا، أم كيف تَنَامُ عينَا من يخشى البَيَاتَ، وتَسكُنُ نفسُ من يَتَوَقَّعُ الممَاتَ.
  أَلَا لَا وَلَكِنَّا نَغُرُّ نُفُوسَنَا ... وتَشغَلُنَا اللذَّاتُ عَمَّا نُحَاذِرُ
  وكيفَ يَلَذُّ العيشَ مَنْ هُو مُوقِنٌ ... بِمَوقِفِ عَدْلٍ يومَ تُبْلَى السَّرَائِرُ
  كَأَنَّا نَرى أَنْ لَا نُشُورَ وَأَنَّنَا ... سُدَىً مَا لنا بعد المَمَاتِ مَصَائِرُ
  وما عسى أن ينالَ صاحِبُ الدنيا من لَذَّتِهَا، ويتمتَعُ به من بَهجتِهَا، مع صنُوفِ عجائبِها، وقوارع غجائِعِها، وكثرةِ تعبِهِ في مُصَابِها وطلبِهَا، وما يكابد من أسقامِهَا وأوصَابِهَا وآلامِهَا.
  وما قَدْ نَرَى في كُلِّ يومٍ ولَيلةٍ ... يروحُ علينا صَرفُهَا ويُبَاكِرُ
  تَعَاوَرُنَا آفَاتُهَا وهُمُومُهَا ... وكمْ قَدْ نَرى يبقَى لَهَا المُتَعَاوِرُ
  فَلَا هُو مغبوطٌ بدنيَاهُ آَمِنٌ ... ولا هُو عن تِطْلَابِهَا النَّفْسَ قَاصِرُ
  كم قد غَرَّت الدنيا من مُخْلِدٍ إليها، وصرعَتْ من مُكِبٍّ عليها، فلم تَنْعَشْهُ من غِرَّتِهِ، ولم تُقِمْهُ من صَرْعَتِهِ، ولم تَشْفِهِ من أَلَمِهِ، ولم تُبْرِهِ من سَقَمِهِ، ولم تُخَلِّصْهُ من وَصَمِهِ.
  بَلَى أَورَدَتْهُ بَعد عِزٍّ ومَنْعَةٍ ... موارِدَ سُوءٍ ما لَهُنَّ مَصَادِرُ
  فلَمَّا رأى أَنْ لَا نَجَاةَ وأَنَّهُ ... هو الموتُ لا يُنجِيهِ منهُ التَّحَاذُرُ
  تَنَدَّمَ إذْ لَمْ تُغْنِ عَنهُ نَدَامَةٌ ... عليهِ وأَبكتْهُ الذُّنُوبُ الكَبَائِرُ