روائع الخطب المنبرية للجمع والأعياد والمناسبات الدينية،

إبراهيم الدرسي (معاصر)

الثالث عشر: الخطب المتعلقة بالمواعظ البليغة (حول الدنيا والموت والقيامة والجنة والنار)

صفحة 314 - الجزء 2

  فرحم الله من عباده عبداً، أيقن أن له إلى الله معاداً، فجدّ وشمّر في طلب نجاته، قبل نزول الموت ومفاجأته، فكم رأينا من مُفَاجَأٍ مبغُوت، بما لم يتوقعه من وفاة وموت، أُخذ في غمرته، وعلى حين غِرَّتِه، فتبرأ منه قبيلتُه وأحبآؤه، وأسلمه للموت أهله وأقرباؤه، فلم ينصره أهلٌ ولا عشير، ولم يكن له منهم نصير، بكاه من بكاه منهم قليلاً، ثم هجره وجفاه طويلاً، فكأنَّه لم يره حياً، ولم يكن له في حياته صفياً.

  فعلينا أن نُبصِرَ ونبادِر، ونعتبِرَ بما نرى ونُحاذِر، فرب مبصر لا يبصر، ومعتبر بما يَرى لا يعتبر، يسترّ بالأشجان والأحزانِ، ويُغَرُّ بالرجاء والأمان، وهو دائبٌ في قطع عمره وأجلِه، مغترٌّ بمناه ورجاه وأملِه، لا يتنفس نَفَساً، ولا يطرف طَرْفاً، إلا قَطَعَ به من أجله ناحيةً وطرَفاً، لا يُغْفَلُ عنه وإن غَفَل، ولا يُؤخر لما رجاءه وأمَّل، قد جدّ به المسير، واختدعه الأمل والتسويف والتأخير، فأمله خدعة وغرور، وأجله متعة وبور.

  فالعجلَ العجلَ، فقد نرى المسير إلى الموت والترحل، لا يُقلِعُ راحلُه وسائِرُه، ولا يريعُ على أوائلِه أواخرُه، يَلحقُ المتأخرُ بالسائرِ الأول، والمقيمُ من أهله بالظاعن الراحل، لا يُخلِّف من العباد جميعاً متخلفاً، بل يختطف نفوسهم خطفاً، يأخذ الصغير أَخْذَه للكبير، ويُلحق بعضهم بعضاً في الموت والمصير.

  فكم رأينا في غِرته من مأخوذ! ومن ميتٍ بالعراء منبوذ! يتخالس الطيرُ لحمَه تخالُسَاً، وتتناهشه سباع الوحش تناهشاً، وكم سمعنا من ملقًى في بحر من البحور للموت؟ يأكل لحمَه ما قاربه من حوت، وكم رأينا في الثراء من ملحود؟ متناثرة أوصاله وعظامه بالدود، وقد نسيه بعد الذكر أهلوه! وقَطَعَهُ بعد مودته مواصلوه، فأغفلوا ذكره فلا يذكرونه إلا قليلاً، وكلُّهم فقد كان له أهلاً وخليلاً، فكأنّهم لم يروه في الأحياء، ولم ينالوا منه نفعاً ولا عطاء.