روائع الخطب المنبرية للجمع والأعياد والمناسبات الدينية،

إبراهيم الدرسي (معاصر)

الأول: الخطب المتعلقة بشهر محرم

صفحة 25 - الجزء 1

  والأمرُ الذي يجعلُ الإنسانَ مُجِدَّاً في الطاعةِ هو قِصَرُ الأملِ وَتَذَكُّرُ الموتِ، فإنّ الموتَ لا يَهجُمُ فِي وَقْتٍ مَخصُوصٍ وسِنِينَ مَخْصُوصَةٍ، وحالٍ مَخْصُوصَةٍ، فَقَدِّرْ هذَا على قَلبِكَ، فلا بُدّ من هُجُومِه، فالإسْتِعدَادُ لَهُ أولى من الاستعدادِ للدنيا، وأنت تعلمُ أنَّك لا تبقَى فيها إلا مدةً يَسِيرَةً، ولعلَّه لم يبقَ من عمركَ إلا نَفَسٌ أو ساعةٌ أو يومٌ، وقَرِّرْ هذا في قلبك كلَّ يومٍ، وكَلِّفْ نفسَكَ الصَّبرَ فيهَا على طاعةِ الله تعالى يوماً فيوم، فإنَّك لَوْ قَدَّرْتَ البقاءَ خمسينَ سنَةٍ، وألزمتَ نفسَكَ الصبرَ فيها على طَاعَةِ اللهِ تعالى ثَقُلَ ذلِكَ واستصعَبَ، وَلَكِنْ إذَا استحضَرْتَ الموتَ وقَدَّرتَ هُجُومَهُ في كل حَالٍ، فإنْ كنتَ في النهار قَدَّرتَ أنَّكَ لا تُمسِي، وإن كنتَ في الليلِ قَدَّرتَ أَنَّكَ لا تُصبِحُ، فهذا يجعَلُكَ مُجِدَّاً في الطاعَةِ، نَشِيطَاً في العبادَةِ، بَعِيدَاً عن المعصيةِ، فَعَلَينَا أَنْ نُجَدْوِلَ حَيَاتَنَا اليومِيَّةَ، ونُوَظِّفَ أَوقَاتَنَا وَنُنَظِّمَهَا كَي لَا تَضِيعَ.

  وأمَّا القضيةُ الثَّانيةُ: فَهِيَ حَدَثٌ عظيمٌ من خلاله تغيَّرَ وجهُ العالَم، إِنَّهُ حَدَثُ الهجرةِ النبويَّةِ، الذي يُعَدُّ مَعلَمَاً بَارِزَاً، وَحَدَثَاً هَامَّاً في الإسلَامِ، وكَانَ تَحَوُّلَاً جَذرِيًّا في طريقِ الدعوةِ إلى اللهِ، وفي كيفيةِ التعاملِ مع المعَارِضِينَ لهَا، لقدْ كَانتْ الهجرةُ مُقَدِّمَةً لِنَصْرٍ عَظِيمٍ للإسلامِ وأهلِه، بَلَغَ قَبلَ نهايةِ المائةِ الأولَى مِنهَا إلى أَكثرَ من ثُلُثِ الأَرْضِ.

  فحينَما خرجَ المصطفى صلواتُ الله وسلامُه عليه وعلى آله من مَكَّةَ مَظلُومَاً مَقهُورَاً، مُشرَّدَاً مَطرُودَاً إلى طيبةَ الطيبةِ البلدةِ المباركة، أسَّسَ فيها دولةَ الإسلام، وهيّأ فيها رجالاً ربَّاهم فأحسنَ تربيتَهم، وأدَّبهم فأحسنَ تأديبَهم، يَدعونَ إلى الله، وينصرون رسولَه، يَدفعُونَ عنه أَذَى الكفارِ، حتى يُبَلِّغَ دينَ اللهِ الذي أمرهُ أنْ يُبَلِّغَهُ للعَالَمِينَ: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}⁣[الأنعام: ١٩]، فَبَلَّغَ رسالةَ رَبِّهِ حتى أتَاهُ اليقينُ، وتَرَكَ الناسَ على المحجةِ البيضاءِ، ليلُها كنهَارِها، لا يزيغُ عنها إلا هَالِكٌ.

  وفي هذا الحدثِ العظيمِ من الدروسِ والعبرِ ما لو استشْعَرَتْهُ الأمةُ الإسلاميةُ اليومَ، وعملتْ على ضوئِهِ لَتَحَقَّقَ لها عِزُّها وكرامتُها، وقُوَّتُها ومكَانَتُها، ولَعَلِمَتْ علمَ اليقين