الثالث عشر: الخطب المتعلقة بالمواعظ البليغة (حول الدنيا والموت والقيامة والجنة والنار)
  بَكَى على ما سلفَ من خطايَاهُ، وتَحَسَّرَ على ما خَلَّفَ مِنْ دُنيَاهُ، حِين لَا ينفَعُهُ الإستعْبَارُ، ولَا يُنْجِيهِ الإعتِذَارُ، عَندَ هولِ المنِيَّةِ، ونُزُولِ البَلِيَّةِ.
  أَحَاطَتْ بِهِ أَحْزَانُهُ وهُمُومُهُ ... وأَبْلَسَ لَمَّا أَعجَزَتْهُ المَعَاذِرُ
  فَليسَ له مِنْ كُرْبَةِ الموتِ فَارِجٌ ... ولَيسَ له مِمَّا يُحَاذِرُ نَاصِرُ
  وَقَدْ جَشَأَتْ خَوفَ المَنِيَّةِ نَفْسُهُ ... تُرَدِّدُهَا منهُ اللَّهَا والحَنَاجِرُ
  هُنالِكَ خَفَّ عنه عُوَّادُهُ، وأَسلَمَهُ أهلُهُ وأولادُهُ، فارتفعَتْ الرَّنَّةُ بالعَوِيلِ، وأَيِسُوا مِنْ بُرْءِ العَلِيلِ، فَغَمَّضُوا بِأيدِيهِمْ عَيْنَيْهِ، وَمَدُّوا عِندَ خُرُوجِ نَفْسِهِ رِجْلَيْهِ، وتخلّى عنه الصديقُ، والصاحبُ الشَّفِيقُ.
  فَكَمْ مُوجّعٍ يَبكِي عَليِه مُفَجَّعٌ ... ومُسْتَنْجِدٍ صَبْرَاً ومَا هُوَ صَابِرُ
  وَمُسْتَرْجِعٍ دَاعٍ له اللهَ مُخْلِصَاً ... يُعَدِّدُ منه خَيرَ مَا هُوَ ذَاكِرُ
  وَكَمْ شَامِتٍ مُسْتَبْشِرٍ بِوَفَاتِهِ ... وعَمَّا قَلِيلٍ كَالَّذِي صَارَ صَائِرُ
  فَشَقَّ جُيُوبَهَا نِسَاؤُهُ، ولَطَمَ خُدُودَهَا إِمَاؤُهُ، وأَعْوَلَ لِفَقْدِهِ جِيرَانُهُ، وتَوَجَّعَ لِرُزْئِهِ إِخْوَانُهُ، ثُمَّ أَقْبَلُوا عَلَى جَهَازِهِ، وشَمَّرُوا لِإِبْرَازِهِ، كأنه لم يكن بينهم العزيزُ المُفَدَّى، ولا الحبيبُ المُفَدَّى.
  وَظَلَّ أَحَبُّ القومِ كَانَ لِقُرْبِهِ ... يَحُثُّ على تَجْهِيزِهِ وَيُبَادِرُ
  وَشَمَّرَ مَنْ قَدْ أَحْضَرُوهُ لِغَسْلِهِ ... وَوُجِّهَ لَمَّا قَامَ للقَبْرِ حَافِرُ
  وَكُفِّنَ في ثَوبَينِ واجْتَمَعَتْ لَهُ ... مُشَيِّعَةً إِخْوَانُهُ والعَشَائِرُ
  فَلَوْ رَأيتَ الأصغَرَ مِن أولادِهِ، وقَدْ غَلَبْ الحُزنُ على فُؤَادِهِ، وغُشِيَ مِنَ الجَزَعِ عَلَيْهِ، وخَضَّبَتْ الدُّمُوعُ خَدَّيهِ، وهُو يَنْدُبُ أَبَاهُ، ويَقُولُ يَا وَيْلَاهُ.
  لَعَايَنْتَ مِن قُبْحِ المَنِيَّةِ مَنْظَرَاً ... يَهَالُ لِمَرْآهُ وَيَرْتَاعُ نَاظِرُ
  أَكَابِرُ أَولادٍ يَهِيجُ اكتِئَابُهُمْ ... إِذَا مَا تَنَاسَاهُ البَنُونَ الأصَاغِرُ
  وَرَنَّةُ نِسوانٍ عليه جَوَازِعٍ ... مَدَامِعُهُنْ فَوقَ الخُدُودِ غَوَازِرُ