روائع الخطب المنبرية للجمع والأعياد والمناسبات الدينية،

إبراهيم الدرسي (معاصر)

الثالث عشر: الخطب المتعلقة بالمواعظ البليغة (حول الدنيا والموت والقيامة والجنة والنار)

صفحة 304 - الجزء 2

  ثُمَّ أُخْرِجَ مِن سَعَةِ قَصْرِهِ، إلى ضِيقِ قَبْرِهِ، فَلَمَّا استقَرَّ في اللحْدِ، وبُنِيَ عليه اللبنُ، احتوشته أعماله، وأحاطت به خطاياه، وضاق ذرعاً بما رآه، ثُمَّ حَثَوا بِأيدِيهِمُ التُّرَابَ، وَأَكثَرُوا البكاءَ عَليهِ والإنتِحَابَ، وَوَقَفُوا سَاعَةً عَليهِ، وأَيِسُوا من النَّظَرِ إلَيهِ، وتَرَكُوهُ رهناً بما كَسَبَ وطَلَبَ.

  فَوَلَّوْا عليه مُعَوِّلِينَ وَكُلُّهُمْ ... لِمِثْلِ الذِي لَاقَى أخوهُ مُحَاذِرُ

  كَشَاءٍ رِتَاعٍ آَمِنَاتٍ بَدَا لَهَا ... بِمُدْيَتِهِ بَادِي الذِّرَاعَينِ حَاسِرُ

  فَرِيعَتْ وَلَم تَرْتَعْ قَلِيلَاً وَأَجْفَلَتْ ... فَلَمَّا نَأَى عَنهَا الذي هُو جَازِرُ

  عَادَتْ إلى مَرْعَاهَا، ونَسِيَتْ مَا في أُخْتِهَا دَهَاهَا، أَفَبِأَفْعَالِ البَهَائِمِ اقتَدَيْنَا، أَمْ عَلَى عَادَتِهَا جَرَيْنَا، عُدْ إلى ذِكرِ المنْقُولِ إلى دَارِ البِلَى، واعتبر بموضعه تحت الثَّرَى، المدفوعِ إلى هَولِ مَا تَرَى.

  ثَوَى مُفْرَدَاً في لَحْدِهِ وتَوَزَّعَتْ ... مَوَارِيثَهُ أَرْحَامُهُ والأَوَاصِرُ

  وَأَحْنُوا على أَمْوَالِهِ يَقْسِمُونَهَا ... فَلَا حَامِدٌ منهم عَلَيهَا وَشَاكِرُ

  فَيَا عَامِرَ الدُّنيَا ويَا سَاعِيَاً لَهَا ... ويَا آمِنَاً مِنْ أَنْ تَدُورَ الدَّوَائِرُ

  كيفَ أَمِنْتَ هذِهِ الحَالَة، وأنْتَ صَائِرٌ إليهَا لَا مَحَالَة؟!، أم كيفَ ضَيَّعْتَ حَيَاتَكَ، وهي مطيتُكَ إلى مَمَاتِكَ؟!، أم كيف تُسيغُ طعَامَكَ، وأَنْتَ مُنْتَظِرٌ حِمَامَكَ؟! أم كيف تهنأُ بالشهوات، وهي مطية الآفاتِ؟!.

  وَلَم تَتَزَوَّدْ للرحِيلِ وقَدْ دَنَا ... وأنتَ على حَالٍ وَشِيكَاً مُسَافِرُ

  فَيَا لَهْفَ نَفْسِي كَمْ أُسَوِّفُ تَوبَتِي ... وَعُمْرِيَ فَانٍ والرَّدَى لِيَ نَاظِرُ

  وَكُلُّ الذِي أَسْلَفْتُ في الصُّحْفِ مُثْبَتٌ ... يُجَازِي عَلَيهِ عَادِلُ الحُكْمِ قَادِرُ

  فَكَمْ تَرْقَعُ بِآخرَتِكَ دُنْيَاكَ، وَتَرْكَبُ فِي ذَلِكَ هَوَاكَ، أَرَاكَ ضَعِيفَ اليَقِينِ، يَا مُؤثِرَ الدُّنْيَا عَلَى الدِّينِ، أَبِهَذَا أَمَرَكَ الرَّحْمَنُ، أَمْ عَلَى هَذَا نَزَلَ القُرْآنُ، أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب، وشر المآب؟ أما تذكر حال من جمع وثمّرَ، ورفع البناء وزخرف وعمّرَ، أما صار جمعهم بوراً، ومساكنهم قبوراً.