الثالث عشر: الخطب المتعلقة بالمواعظ البليغة (حول الدنيا والموت والقيامة والجنة والنار)
  عنه! فاعتبر أيها السامع بهلكات الأمم، وزوال النعم، وفضاعة ما تسمع وترى من سوء آثارها في الديار الخالية، والرسوم الفانية، والربوع الصموت.
  وكم عَالَمٍ أَفْنَتْ فلم تَبْكِ شجوَهُ ... ولا بد أن تفنى سريعاً لحوقُها
  فانظر بعين قلبك إلى مصارع أهل البذخ، وتأمل معاقل الملوك، ومصانع الجبارين، وكيف عركتهم الدنيا بكلاكل الفناء، وجاهرتهم بالمنكرات، وسحبت عليهم أذيال البوار، وطحنتهم طحن الرحى للحب، واستودعتهم هوج الرياح تسحب عليهم أذيالها فوق مصارعهم في فلوات الأرض!.
  فتلك مغانيهم وهذي قبورُهم ... توارثَها إعصارُها وحريقُها
  أيها المجتهد في آثار من مضى من قبلك من الأمم السالفة، توقف وتفهم وانظر أي عز ملك، أو نعيم أنس، أو بشاشة ألف إلا نغصت أهله قرة أعينهم، وفرقتهم أيدي المنون، وألحقتهم بتجافيف التراب، فأضحوا في فجوات قبورهم يتقلبون، وفي بطون الهلكات عظاماً ورفاتاً وصلصالاً في الأرض هامدون.
  وآليتُ لا تُبقي الليالي بشاشةً ... ولا جِدَةً إلا سريعاً خُلُوقُها
  وقد أغرق في ذم الدنيا الأدِلَّاءُ على طرق النجاة من كل عَالِم، فبكت العيونُ شَجَنَ القلوبِ فيها دماً، ثم درست تلك المعالمُ، فتنكرت الآثار، وجعلت في برهة من محن الدنيا، وتفرقت ورثة الحكمة، وبقيت فرداً كقرن الأعضب وحيداً، أقول فلا أجد سميعاً، وأتوجع فلا أجد مشتكى.
  وإن أَبْكِهِم أَجْرَضْ وكيف تجلدي ... وفي القلب مني لوعةٌ لا أطيقُها
  وحتى متى أتذكرُ حلاوةَ مذاقِ الدنيا، وعذوبةَ مشاربِ أيامها، وأقتفي آثارَ المريدين، وأتنسَّمُ أرواحَ الماضين مع سبقهم إلى الغلِّ والفساد، وتخلُّفي عنهم في فُضَالةِ طرقِ الدنيا، منقطعاً من الأخلاء؟! فزادني جليلُ الخطب لفقدهم جَوَى، وخانني الصبرُ حتى كأني أولُ ممتحنٍ أتذكرُ معارفَ الدنيا وفراق الأحبّة.