الجني الداني في مناقشة الشوكاني،

أحمد بن لطف الديلمي (معاصر)

أقل المهر عشرة دراهم

صفحة 310 - الجزء 2

  فكذلك أيضًا لا حد له، ولذلك ذكر الله القنطار، فمن زعم أن المهر لا يكون إلا كذلك فعليه الدليل الصحيح» اهـ كلامه باختصار.

  أقول: إن العرف في بعض الأمور يصير حاكمًا يمنع عدم التقيد به من الوصول إلى الغرض المطلوب، ويبقى مخالفُه شاذًّا في مجتمعه، بل وفي عشيرته. وقصة المهر التي علق عليها الفقيه، ونعى على جعل أقله عشرة دراهم، وندب إلى الإنكاح ببلغة من طعام، أو نعلين، أو خاتم من حديد، هذه أصبحت في عصرنا كالأساطير لا يمكن إعمالها لا من ولي ولا من زوج، وأي رجل سيغامر ويطلب إنكاحه بهذه التوافه في هذا العصر؟!، بل أي ولي سيقبلها؟! فهي نكيرة وغريبة في عصرنا، وهي أيضًا غريبة ونادرة الوقوع في عصر النبوة؛ وبهذا بقيت القضية آحاداً: قضية الخاتم والنعلين مع أن قضية خاتم من حديد لم يصح لها أي مهر لا خاتم من حديد ولا من خشب؛ لأنه لم يجد شيئا فأنكحه رسول الله ÷ على ما معه من القرآن، ولم تتكرر قضية الخاتم ولا النعلين؛ لأنها قضية إعسار وعدم قدرة، ولهذا فإن البخاري بوب لحديث الخاتم باب نكاح المعسر؛ لأنهما كانا فقيرين، وقد أرادا أن يحشدا جهدهما يتعاونان على قسوة الأيام. وقصة النعلين لم تتكرر، وقد قال لها رسول الله ÷: «أرضيت من مالك ونفسك بنعلين»؟ قالت: رضيت؛ والبلغة من الطعام لم يقم لها سند صحيح كما في كتاب (الجوهر النقي على سنن البيهقي) ج ٧، وهذه أمور لا يقاس عليها، ولا يؤخذ بها اليوم؛ فهي حالات ضرورة، والله تعالى يقول: {أَن تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُم}⁣[النساء: ٢٤]، ثم إن المهر ليس من قيم المتلفات ولا أروش الجنايات، ولا يلحق بصيد الحرم يَحْكُمُ به ذَوَا عَدْل، بل هو أمر منبعه الرغبة في الأمر؛ ففيه ما انتهت إليه الرغبات بحسب حال الطرفين، لا سيما مع قوله تعالى: {وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَارًا}⁣[النساء: ٢٠]. وروى البيهقي في (سننه) ج ٧ كتاب النكاح، وابن قدامة في (المغني) ج ٩: أن عمر أمهر أم كلثوم أربعين ألفا، وإذا كان الفقيه قد أبى من جعل أقل المهر عشرة دراهم فاستكثرها فهي غفلة عن مقتضيات العرف ومؤثرات العصر، ولوازم الزمن، وأعراف الناس، وما تحتاجه المرأة لنفسها: من لباس، وحلي، وما تظهر به أمام النساء، وأمام ترائبها ليلة الجُلْوَة، قل لي بربك: أين عشرة الدراهم من هذه الحاجيات حتى في عصر الفقيه نفسه؟! وكم من فوارق بيننا وبين عصره!