أساس البلاغة،

محمود بن عمر الزمخشري (المتوفى: 538 هـ)

مقدمة المؤلف

صفحة 7 - الجزء 1

  

  قال الإمام البارع العلّامة أستاذ الدنيا، شيخ العرب والعجم، جار الله فخر خوارزم، أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري، رضي الله تعالى عنه:

  خيرُ منطوق به أمامَ كلّ كلام، وأفضلُ مُصدَّر به كلّ كتاب، حمدُ الله تعالى ومدحُه بما تمدّح به في كتابه الكريم، وقرآنه المجيد: من صفاته المُجْرَاة على اسمه لا على جهة الإيضاح والتفصِلة، ولا على سبيل الإبانة والتفرقة؛ إذ ليس بالمشارَك في اسمه المبارك: {رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا}. وإنّما هي تماجيدُ لذاته المُكَوِّنة لجميع الذّوات، لا استعانَةَ ثَمّ بالأسباب ولا استظهارَ بالأدوات.

  وأَولى ما قُفّيَ به حمدُ الله تعالى الصلاةُ على النبيّ العربيّ المُسْتَلّ من سُلالة عدنان، المفضَّلِ باللسان، الذي استخزنه الله الفصاحةَ والبيان؛ وعلى عِتْرَتِهِ وصحابتِه مَدارِهِ العرب وفُحُولِها، وغُرَرِ بني مَعَدّ وحُجُولِها.

  هذا، ولما أنزل الله تعالى كتابه مختصّاً من بين الكتب السماويّة بصفة البلاغة التي تَقَطّعَت عليها أعناقُ العِتَاقِ السُّبَّقِ، وونَتْ عنها خُطَا الجِيادِ القُرَّح، كان الموفَّقُ من العلماء الأعلام، أنصارِ ملّة الإسلام؛ الذّابّينَ عن بَيْضَةِ الحنِيفيّة البيضاء، المُبَرْهِنين على ما كان من العَرَب العَرْباء، حين تُحُدّوا به من الإعراض عن المُعَارَضَةِ بأسَلَاتِ ألسنتهم، والفزع إلى المُقَارعَة بأسِنّة أسَلِهم؛ مَن كانت مَطامحُ نظَرِه، ومَطارِحُ فِكْرِه؛ الجهاتِ التي تُوَصّلُ إلى تبيُّن مراسِم البلغاء، والعُثُورِ على مَناظم الفصحاء؛ والمُخايرَةِ بين مُتَداوَلات ألفاظهم، ومُتَعَاوَرَاتِ أقوالهم، والمُغَايَرَةِ بين ما انْتَقَوْا منها وانْتَخَلُوا، وما انْتَفَوْا عنه فلم يتقبّلوا، وما استركّوا واستَنْزَلوا، وما استفصَحُوا واستَجْزَلُوا؛ والنظر فيما كان الناظر فيه على وجوه الإعجاز أوْقَف، وبأسراره ولطائفه أعْرَف؛ حتى يكون صدر يقينه أثْلَج، وسهم احتجاجه أفْلَج؛ وحتى يُقال: هو من علم البيان حَظِيّ، وفهمه فيه جاحِظيّ. وإلى هذا الصّوْبِ ذهب عبدُ الله الفقيرُ إليه محمودُ بنُ عمرَ الزمخشري، عفا الله تعالى عنه، في تصنيف «كتاب أساس البلاغة». وهو كتابٌ لم تزل نَعَامُ القلوب إليه زَفّافَة، ورياحُ الآمال حوله هَفّافَة؛ وعيونُ الأفاضل نحوه رَوامِق، وألسنتُهم بتمنّيه نواطِق؛ فُلِيَتْ له العربيّة وما فَصُح من لغاتها، ومَلُح من بلاغاتها؛ وما سُمع من الأعراب في بواديها، ومن خطباء الحِلَلِ في نَواديها؛ ومن قَرَاضِبَةِ نَجْدٍ في أكْلائِها ومَراتِعِها، ومن سَمَاسِرَةِ تِهامةَ في أسواقها ومجامعها؛ وما تَرَاجَزَتْ به السّقاةُ على أفْوَاه قُلُبِها، وتساجعت به الرّعاةُ على شِفَاه عُلَبِها؛ وما تَقَارَضَتْهُ شُعَرَاء قَيْسٍ وتَميمٍ في ساعاتِ المُمَاتَنَةِ، وما تزاملَتْ به سُفَراء ثَقيفٍ وهُذَيْلٍ في أيّام المُفاتَنَة؛ وما طُولِعَ في بطون الكتب ومُتُون الدفاتر من روائع ألفاظ مُفْتَنّة، وجوامع كَلِمٍ في أحْشائِها مُجْتَنّة.