[عدم جواز إخلاف الوعيد]
  كل عاقل حسن العفو، وترك العقوبة على الذنب، واتفق العقلاء عليه، ومدح الله فاعل ذلك فقال: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ١٣٤}[آل عمران]، يعني الواهبين لما استحقوه بما جني عليهم، وقال: {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ٤٣}[الشورى]، إلى غير ذلك من الآيات».
  فالجواب: أنا لم نقل: إن إخلاف الوعيد يقبح من كل متوعد حتى يلزم ما ذكرته في الشاهد، وإنما قلنا بذلك في حق الله سبحانه؛ لأنه تعالى يخبر عن نفس الفعل، وهو تعالى عالم بالعواقب، لا يخفى عليه شيء، ولا يمنعه تعالى مانع عن فعل ما يريد فعله، بخلاف المتوعد من العباد، فإنه لا يخبر إلا عن عزمه على إيقاع الفعل، ولا يعلم العواقب، هل يبقى إلى وقت الفعل أم لا، وهل يبلغ إلى ما توعد به، أم يحال بينه وبينه بموت، أو عجز، أو قهر غيره له؛ فكان إخلاف الوعيد لا يكشف عن قبح الإخبار بإنزال المضرة بالغير، وإنما هو إخبار عن عزمه على ذلك، والله تعالى لا يجوز عليه العزم؛ لأن العزم إنما يتعجله القادر من العباد، إما ليتعجل المسرة، أو يدفع به عن نفسه المضرة، والمسار والمضار لا تجوز على الله تعالى؛ لأنه غني لا يحتاج إلى شيء أصلاً، والمسرة والمضرة لا تجوز إلا على المحتاج كما قدمنا، وصح أن الفقيه غَالَط حيث تكلمنا في أنه لا يجوز إخلاف الوعيد من الله تعالى؛ فأجاب بأنه يحسن من العبيد.
  وقد بينا الفرق في ذلك، وجميع ما ذكر من الأمثلة في العفو وحسنه، فهي في حق العباد، ولا تعلق لها بإخلاف الوعيد من جهة الله ø، فبان الفرق بين الموضوعين، وبقي الاستدلال مستقلاً، وهو أن إخلاف الوعيد من الله سبحانه يكشف عن أن الخبر به كان كذباً، تعالى الله عنه.