[عودة إلى الفرق بين وعيد الله ووعيد خلقه]
  اللذان أخرجتهما مخرج الذم فلجهلك بالأدب، وإلا فالشاعر أراد بهما المدح، وقد مدحوا بإخلاف الوعيد وصدقه، والكتاب لا يتسع لإيراد ذلك، ومرادهم بذلك تعظيم هيبة الممدوح المتوعد، كما قال النابغة:
  خَطَاطِيفُ(١) حجرٍ في حبالٍ متينةٍ ... تمدُّ بها أيدٍ إليّ نَوازعُ
  فإنَّكَ كالليلِ الذي هو مُدْركِي ... وإن خِلْتُ أن المُنْتَأى عنك واسعُ
  فأخبر أنه لا ينجو منه، ومدحه بذلك ولم يطمع منه بعفو، ولا إخلاف وعيد؛ فقال:
  فَبِتُّ كأنِّي سَاوَرَتْنِي ضَئِيلةٌ ... مِنَ الرُّقْشِ في أَنْيَابِهَا السُّمُّ نَاقِعُ(٢)
[عودة إلى الفرق بين وعيد الله ووعيد خلقه]
  وأما قوله: «وهذا يدل على أن استشهادنا بالبيت الأول في مدح من لم يف بالوعيد صحيح؛ لأن مثله قد أنشد بين يدي النبي ÷ المؤيد بالوحي، الذي لا يجوز إقراره على الخطأ، فقبله وأجاز عليه صاحبه، ويدل على بطلان بيتيك اللذان استشهدت بهما، لكونهما لا دلالة عليهما ولا حجة، بل أوردهما الشاعر على غرضه، فتدبر هذا تصب إن شاء الله تعالى».
  فالجواب: أنا قد بينا الفرق بين وعيد الله تعالى ووعيد خلقه، فإن وعيد الله سبحانه إخبار عن نفس الفعل؛ لأنه سبحانه علام الغيوب، فلا يجوز أن يُمنع فيما توعد به، ولا أن يظهر له الصواب في خلافه، فيبدوا له خلاف ما توعد به، والعبد إنما يخبر عن عزمه على ما توعد به، ولا يدري هل يبقى المتوعَد أم يهلك، وهل يبقى المتوعِد أم يهلك، وإذا بقي هل يبقى قادراً أو يعجز، وإذا بقي قادراً هل يمنعه أقدر منه من فعل ما توعد به أم لا؟ وإذا لم يمنع لا يدري هل الصواب في فعل ما توعد
(١) الخُطَّاف: الخاطوف (ما يختطف به الشيء) وكل حديدة معوجة، جمعه: خطاطيف.
(٢) ضئيلة: نحيفة. الرقش: الحية لرُقشة جلدها.