[بداية خطبة فقيه الخارقة والرد عليها وتوضيح تناقضاته]
  فصح بهذه الجملة أنه تعالى لو ابتدأ خلقه للشقاوة والهلاك المجرد لكان ذلك ظلماً، والظلم قبيح لكونه ظلماً؛ لما قدمنا ذكره، من أن من عرفه ظلماً عرف قبحه ومن لم يعرفه بهذه الصفة لم يعلمه قبيحاً متى جوز كونه إنصافاً وعدلاً؛ فلو وقع من الله سبحانه ضرر على هذه الصفة لكان ظلماً قبيحاً لثبوت العلة فيه على ما بينا، وقد ثبت أن الله سبحانه لا يفعل القبائح؛ لكونه عالماً بقبحها لما كان عالماً بجميع المعلومات، والقبائح من جملة المعلومات، وغنياً عن جميع الأشياء الحسن منها والقبيح، وعالماً بأنه غني عنها؛ لأنه سبحانه يعلم ذاته على ما هو عليه من الصفات.
  وقد ثبت أن من جمع هذه الأوصاف من المخلوقين لم يفعل قبيحاً، ومتى اختل واحد منها أمكن منه القبيح، وهي حاصلة لله تعالى على أبلغ الوجوه فيجب امتناعه من القبيح أحق وأولى.
  وهذا الاستدلال بالشاهد على الغائب من طريقين: أحدهما: أنه اشتراك في العلة، وهي حصول الخصال التي يمتنع عندها من مواقعة القبيح إذ لا داعي إليه، كما أن الواحد منا إذا قيل له: إن صدقت أعطيناك درهماً، وإن كذبت أعطيناك درهماً؛ فإنه يختار الصدق على الكذب إذ لا داعي له إلى الكذب، وله عنه صارف وهو العلم بقبحه، وقد حصل هذا المعنى في حق الله تعالى؛ فلهذا قلنا: إنه لا يفعل قبيحاً.
  والوجه الثاني: في الجمع بين الشاهد والغائب وهو طريقة الأَوْلَى؛ فإن أحدنا إن امتنع من القبيح لكونه ظلماً كان أو كذباً أو غيرهما لما كان عالماً بقبحه وغنياً عنه وعالماً بغناه عنه، وهذه الأوصاف ثابتة لله تعالى على أقوى الوجوه وأبلغها؛ فإنه سبحانه أعلم العلماء بقبح القبائح وبغناه عنها، ولا يجوز عليه الجهل بشيء من الأشياء؛ لكونه عالماً لذاته، وأغنى الأغنياء عن فعلها؛ لأنه سبحانه غني لما يرجع إلى ذاته، بخلاف المخلوق فإنه يستغني بشيء عن غيره،