[ذم الفقيه للمجبرة والقدرية وتخاليطه في ذلك]
  أفعال الله تعالى لئلا يؤدي إلى تجهيله وتعجيزه - فهو رجوع إلى ما رجع عنه من مذهب الجبر، ومناقضة عن قرب، على أنا نبين أن وقوع أفعال العباد منهم لا يقتضي شيئاً مما قاله، مع أنا قد بينا ما يدل عليه أيضاً من أن التجهيل عبارة عما به يكون الذات جاهلاً وذلك هو الجهل، وفعل العبد ليس يكون جهلاً لله تعالى؛ لأن الجهل من قبيل الاعتقاد، وكثير من أفعال العبد من قبيل الأكوان التي هي الحركات والسكنات، ومن قبيل التأليفات والأصوات، والإرادات والكراهات، وليس شيء من ذلك جهلاً أو تجهيلاً فما هذه التمويهات والتلفيقات التي لا يبلغها محصل.
  وإن أراد أن تقدير وقوع ما علم الله أنه لا يقع يدل على جهله تعالى؛ فالجواب: أن التقدير في هذا الباب لا يكشف عما يكشف عنه التحقيق؛ فإن الوقوع هو الذي يظهر به أن الاعتقاد كائن على خلاف ما هو به، ولا يلزم ذلك في التقدير؛ لأنه لا يكشف به ذلك بل يدل تقدير الوقوع على حالة لمن صح ذلك منه، وبها يتميز عن من لا يصح منه فيوصف من صح منه الفعل بأنه قادر وأقدر، ويوصف من لم يصح منه ذلك بأنه ليس بقادر؛ فهذا هو الفرق بين الأمرين: بين ما يدل بصحته وبين ما يدل بوقوعه؛ فلينظر فيما ذكرنا من الفرق وما يدل على كل واحد من الحكمين ليظهر له الصدق من المين، والله ولي التوفيق.
  وأما قوله: «وكلا الصفتين لا تليق بمن وصف نفسه بأنه أحكم الحاكمين، وأقدر القادرين، ووصف نفسه بقوله تعالى: {وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ٥٩}» [الأنعام].
  فالجواب عنه: أنه في كلامه هذا ابتدع نوعاً ثالثاً من التخليط؛ فلا أضاف الفعل إلى الله تعالى كما حكاه أولاً، ولا نفاه عنه سبحانه وأضافه إلى العبد كما ذكره ثانياً؛ بل قال: «وكلا الصفتين لا تليق بمن وصف نفسه بأنه أحكم الحاكمين ..» إلى آخر ما ذكره.