فصل: [في عصمة الأنبياء]
  وأجيب: بأنها عرضت له شبهة في عموم الأوقات، أو في علة التحريم حيث اعتقد عدمها وقت الإقدام، يشعر بذلك ما حكاه الله عن إبليس: {وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ٢٠}[الأعراف: ٢٠]، فإنَّه جعل علة النهي أمراً آخر لا حرج عليه فيه.
فرع
  قال (الجمهور) من العلماء ومع إقدامهم عليها عمداً أو سهواً (يجب خفاؤها) فلا يُعلم بها، لئلا يُقتدى بهم فيها، (ولا يعلمون صغرها إلاَّ بعد فعلها)، لأن العلم بصغرها قبل فعلها يستلزم الإغراء بالقبيح، والإغراء بالقبيح قبيح، إذ هو مفسدة، والله تعالى يتنزه عن فعل المفاسد.
  بيان ذلك: أن الله تعالى إذا خلق لهم شهوة القبيح ومكنهم منه ونهاهم عنه، ثم عرفهم أنه لا عقاب عليهم في فعله، فإنَّه يكون كالناقض لغرضه من النهي، ويكونون أقرب إلى ارتكاب ذلك القبيح المنهي عنه بعد علمه بعدم العقاب عليه منه، لو لم يعلم ذلك، وهذا هو معنى المفسدة.
  واعترض هذا: بأن النبي ÷ إذا علم أن كل ما فعله فهو صغيرة مكفرة فقد عرف الصغائر، وإنما حصل الحاصل بعد الفعل هو صفة الفعل من كونه صغيرة ومعصية، إذ لا يسمى صغيرة ولا معصية قبل الفعل، ولم ندع بأنه يعلمه صغيرة قبل الفعل، بل المدعى أن يعلم أنه إذا فعله كان صغيرة، ولا يمكن تعريف الصغائر بغير هذا، فإذا لم يكن هذا تعريفاً لها فتعريفها لا يصح، وقد ثبت أن تعريفها يجوز إجماعاً.
  فإذاً الحق في هذا المقام ما ذكره بعضهم، وأشار إليه السيد في شرح الأصول: من أن كون تعريف الصغائر أغراء مما يختلف باختلاف المكلفين، فمنهم من هو عظيم الرغبة في طاعة الله وامتثال أوامره ونواهيه، شديد الحرص إلى تحصيل ثوابه، واجتناب منهياته ومعاصيه، كما أن منهم من يتحمل مشاق فعل المندوبات وترك المكروهات عنه في الامتثال، وولعاً بتحصيل الثواب، مع العلم بعدم المؤاخذة وانتفاء العذاب، فمن هذه صفته يجوز أن لا يكون التعريف إغراء في حقه، وهذه هي حالة الأنبياء جميعاً، فجاز تعريفهم الصغائر، ولم يكن ذلك إغراء لهم، ويكون علمهم بأنها تنقص من ثوابهم كافياً لهم في الزجر عنها، وامتنع ذلك فيمن ليس على صفتهم للزوم الإغراء، (كالمكروه) الصادر (منهم) فإنهم لا يعلمون كونه مكروهاً إلا بعد فعله، لأنه منفر كالصغيرة، (على الأصح).
  وقيل: إنه يجوز إقدامهم على المكروه لعدم الإثم فيه فلا تنفير.