الجهة الأولى:
  ونظيره أيضاً قوله عليه الصلاة والسلام: «كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ حَتَّى يَكُونَ أَبَوَاهُ هُمَا اللَّذَانِ يُهَوِّدَانِهِ وينصُرَانه» لا يجوز أن يعلق «حتى» بـ «يولد»، لأن الولادة لا تستمر إلى هذه الغاية، بل الذي يستمر إليها كونه على الفطرة؛ فالصواب تعليقها بما تعلقت به «على»، وأن «على» متعلّقة بكائن محذوف منصوب على الحال من الضمير في «يُولد»، و «يُولد» خبر «كلّ».
  الرابع: قول الشاعر [من الطويل]:
  ٧٧٨ - تَرَكْتِ بِنَا لَوْحاً، وَلَوْ شِئْتِ جَادَنَا ... بُعَيْدَ الْكَرَى تَلْجُ بِكِرْمَانَ نَاصِحُ
  وقيل إنه من باب الحقيقة لكن يلوح إلى المعنى المضمن قال ابن جني لو جمعت تضمينات العرب ملأت مجلدات فظاهره القول بأنه قياسي قوله: (على الفطرة) بكسر الفاء أي على الخلقة الأصلية أي التوحيد قوله: (لا تستمر إلى هذه الغاية) إذ الولادة إنما تكون في لحظة. قوله: (منصوب على الحال) أي: ويكون حالاً منتظرة إذا لكون المغيا بهذه الغاية لا يوجد وقت الولادة والأظهر جعله غاية لمحذوف أي ويستمر على ذلك حتى الخ. قوله: (تركت) الخطاب للمحبوبة وقوله لوحاً أي عطشاً وقوله جادنا أي أروانا من قولهم جيدت الأرض فهي مجودة إذا أصابها الجود وهو المطر الغزير والكرى النعاس وثلج صفة لمحذوف أي ريق ثلج أي كالثلج وقوله بكرمان بفتح الكاف اسم لبلدة بين فارس وسجستان والفتح في كرمان أشهر من الكسر وهي بلدة من بلاد الثلج وقوله ناصح أي شديد البياض صفة لثلج ومعنى البيت تركت بنا عطشاً ولو شئت إرواء بعيد النوم بريق بارد كالثلج في كرمان لفعلت والبيت لجرير من قصيدة يمدح بها عبد العزيز بن مروان أولها:
  أريت بعينيك الدموع السوافح ... فلا العهد منسي ولا الربع نازح
  وبعد بيت المصنف:
  صنعت شفاء النفس ممن تركته ... به كالجوى مما تجن الجوانحُ
  مدحناك يا عبد العزيز وطالما ... مدحت فلم يبلغ فعالك مادح
  تفديك بالآباء في كل موطن ... شباب قريش والكهول الجحاجحُ
٧٧٨ - التخريج: البيت لجرير في (ديوانه ص ٢٦٦؛ وشرح شواهد المغني ص ٨٩٠؛ وبلا نسبة في تخليص الشواهد ص ١٦٦؛ والمقرب ص ١٥٧).
اللغة: لوحاً: عطشاً. جاد تكرم الكري النوم. كرمان: بلد بخراسان. ناصح، وناصع: شديد البياض.
المعنى: لقد تركت بنا عطشاً شديداً، فلو تكرمت علينا إذاً لأزلته بريق بارد كالثلج الناصع الآتي من كرمان.