كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

نسب مسلم بن الوليد وأخباره

صفحة 28 - الجزء 19

  رأيت طارقا ببابي، فقمت إليه فإذا هو صديق لي من أهل الكوفة قد قدم من قمّ، فسررت به، وكأنّ إنسانا لطم وجهي، لأنّه لم يكن عندي درهم واحد أنفقه عليه، فقمت فسلَّمت عليه، وأدخلته منزلي، وأخذت خفّين كانا لي أتجمّل بهما، فدفعتهما إلى جاريتي، وكتبت معهما رقعة إلى بعض معارفي في السّوق، أسأله أن يبيع الخفّين ويشتري لي لحما وخبزا بشيء سمّيته. فمضت الجارية وعادت إليّ وقد اشترى لها ما قد حدّدته له، وقد باع الخفّين⁣(⁣١) بتسعة دراهم، فكأنّها إنما جاءت بخفّين جديدين. فقعدت أنا وضيفي نطبخ، وسألت جارا لي أن يسقينا قارورة نبيذ، فوجّه بها إليّ، وأمرت الجارية بأن تغلق باب الدّار مخافة طارق يجيء فيشركنا فيما نحن فيه، ليبقى لي وله ما نأكله إلى أن ينصرف.

  يصل إليه رسول يزيد بن مزيد ويدفع إليه عشرة آلاف درهم

  فإنّا لجالسان نطبخ حتى طرق الباب طارق، فقلت لجاريتي: انظري من هذا. فنظرت من شقّ الباب فإذا رجل عليه سواد وشاشيّة ومنطقة ومعه شاكريّ، فخبّرتني بموضعه فأنكرت أمره⁣(⁣٢)، ثم رجعت إلى نفسي فقلت: لست بصاحب دعارة، ولا للسّلطان عليّ سبيل. ففتحت الباب وخرجت إليه، فنزل عن دابّته وقال: أأنت مسلم بن الوليد؟ قلت: نعم. فقال: كيف لي بمعرفتك؟ قلت: الَّذي دلَّك على منزلي يصحّح لك معرفتي. فقال لغلامه:

  امض إلى الخيّاط فسله عنه. فمضى فسأله عنّي فقال: نعم هو مسلم بن الوليد. فأخرج إليّ كتابا من خفّه، وقال:

  هذا كتاب الأمير يزيد بن مزيد إليّ، يأمرني ألَّا أفضّه إلا عند لقائك، فإذا فيه: إذا لقيت مسلم بن الوليد فادفع إليه / هذه العشرة آلاف درهم، الَّتي أنفذتها تكون له في منزله، وادفع ثلاثة آلاف درهم نفقة ليتحمّل بها إلينا. فأخذت الثّلاثة والعشرة، ودخلت إلى منزلي والرّجل معي، فأكلنا ذلك الطعام، وازددت فيه وفي الشّراب، واشتريت فاكهة، واتّسعت ووهبت لضيفي من الدّراهم ما يهدي به هديّة لعياله.

  يذهب إلى يزيد وينشده قصيدة في مدحه

  وأخذت في الجهاز، ثم ما زلت معه حتى صرنا إلى الرّقّة إلى باب يزيد، فدخل الرّجل وإذا هو أحد حجّابه، فوجده في الحمّام، فخرج إليّ فجلس معي قليلا، ثم خبّر الحاجب بأنّه قد خرج من الحمّام، فأدخلني إليه، وإذا هو على كرسيّ جالس، وعلى رأسه وصيفة بيدها غلاف مرآة، وبيده هو مرآة، ومشط يسرّح لحيته، فقال لي:

  يا مسلم، ما الَّذي بطَّأ بك عنّا؟ فقلت: أيّها الأمير، قلَّة ذات اليد. قال: فأنشدني. فأنشدته قصيدتي الَّتي مدحته فيها:

  أجررت حبل خليع في الصّبا غزل ... وشمّرت همم العذّال في عذلي

  فلما صرت إلى قولي:

  لا يعبق الطَّيب خدّيه ومفرقه ... ولا يمسّح عينيه من الكحل⁣(⁣٣)


(١) في ف والمختار: «الخف».

(٢) في ما: «أمري». والشاشية: العمامة. والمنطقة: الحزام ينتطق به. والشاكري: الأجير.

(٣) في الأغاني ٥/ ٤٤، وابن خلكان ٢/ ٢٨٤: «كفيه ومفرقه». وجاء في شرح الديوان - ١٣: «لا يعبق الطيب خديه ومفرقه أي لا يلصق بهما. ولا يمسح عينيه من الكحل أي لا يتكحل ... يطعن بذلك على بني عمه الذين كانوا أقبلوا إلى أبيهم ليلا متعطرين، وأقبل هو إليه في السلاح».