متمم العبدي والجويرية
٣٣ - متمم العبدي والجويرية
  أخبرني الحسين بن يحيى المراديّ عن حماد بن إسحاق عن أبيه قال: حدثني متمم العبديّ قال:
  خرجت من مكة زائرا لقبر النبي ﷺ، فإني لبسوق الجحفة(١) إذا جويرية تسوق بعيرا، وتترنّم بصوت مليح طيّب حلو في هذا الشعر:
  ألا أيها البيت الذي حيل دونه ... بنا أنت من بيت وأهلك من أهل
  بنا أنت من بيت وحولك لذّة ... وظلَّك لو يسطاع بالبارد السهل
  ثلاثة أبيات فبيت أحبّه ... وبيتان ليسا من هواي ولا شكلي
  فقلت: لمن هذا الشعر يا جويرية؟ قالت: أما ترى تلك الكوّة الموقّاة بالكلَّة الحمراء؟ قلت: أراها، قالت:
  من هناك نهض هذا الشعر، قلت: أو قائله في الأحياء؟ قالت: هيهات، لو أنّ لميّت أن يرجع لطول غيبته لكان ذلك، فأعجبني فصاحة لسانها ورقة ألفاظها، فقلت لها: ألك أبوان؟ فقالت: فقدت خيرهما وأجلَّهما، ولي أم، قلت: وأين أمّك؟ قالت: منك بمرأى ومسمع، قال: فإذا امرأة تبيع الخرز على ظهر الطريق بالجحفة، فأتيتها، فقلت: يا أمّتاه، استمعي مني، / فقالت لها: يا أمّه، فاستمعي من عمّي ما يلقيه إليك، فقالت: حيّاك اللَّه، هيه، هل من جائية خبر(٢)؟ قلت: أهذه ابنتك؟ قالت: كذا كان يقول أبوها، قلت: أفتزوّجينها؟ قالت: ألعلَّة رغبت فيها؟
  فما هي واللَّه من عندها جمال، ولا لها مال، قلت: لحلاوة لسانها وحسن عقلها، فقالت: أيّنا أملك بها؟ أنا أم هي بنفسها؟ قلت: بل هي بنفسها، قالت: فإياها فخاطب، فقلت: لعلها أن تستحي من الجواب في مثل هذا، فقالت: ما ذاك عندها، أنا أخبر / بها، فقلت: يا جارية، أما تستمعين ما تقول أمّك؟ قالت: قد سمعت، قلت: فما عندك؟ قالت: أوليس حسبك أن قلت: يا جارية، أما تستمعين ما تقول أمّك؟ قالت: قد سمعت، قلت: فما عندك؟ قالت: أوليس حسبك أن قتلت: إني أستحي من الجواب في مثل هذا، فإن كنت أستحي في شيء فلم أفعله؟ أتريد أن تكون الأعلى وأكون بساطك، لا واللَّه لا يشدّ عليّ رجل حواءه وأنا أجد مذقة(٣) لبن أو بقلة ألين بها معاي، قال: فورد واللَّه عليّ أعجب كلام على وجه الأرض، فقلت: أو أتزوجك والإذن فيه إليك، وأعطى اللَّه عهدا أني لا أقربك أبدا إلا عن إرادتك؟ قالت: إذا واللَّه لا تكون لي في هذا إرادة أبدا، ولا بعد الأبد إن كان بعده بعد، فقلت: فقد رضيت بذلك، فتزوّجتها، وحملتها وأمّها معي إلى العراق، وأقامت معي نحوا من ثلاثين سنة ما ضممت عليها حواى قطَّ، وكانت قد علقت من أغاني المدينة أصواتا كثيرة، فكانت ربما ترنّمت بها، فأشتهيها،
(١) الجحفة: قرية كانت على طريق المدينة من مكة على أربع مراحل وهي ميقات أهل مصر والشام.
(٢) تريد خبرا يجوب البلاد متنقلا.
(٣) مذقة: لبن مخلوط بالماء.