غناء الواثق
  وهو يشرب حتى سكر. ثم قال لي: هات العود، فدفعته إليه، فغنّاه أحسن غناء؛ فنفست عليه إحسانه، ودعوت بطبل فجعلت أوقع عليه وهو يضرب حتى دفع العود وأخذ الطَّبل فجعل يوقع به أحسن إيقاع، ثم دعا بدفّ فأخذه ومشى به وجعل يغنّي أهزاج طويس حتى قلت قد عاش، ثم جلس وقد انبهر. فقلت: يا سيّدي، كنت أرى أنك تأخذ عنّا ونحن الآن نحتاج إلى الأخذ عنك! فقال: أسكت ويلك! فو اللَّه أن سمع هذا منك أحد ما دمت حيّا لأقتلنّك. فو اللَّه ما حكيته عنه حتى قتل.
  أخبرنا يحيى بن عليّ بن يحيى قال أخبرنا أبو أيّوب المدينّي قال ذكر أبو الحسن المدائني أن يحيى مولى العبلات المعروف بفيل وهو الذي غنّى:
  أزرى بنا أننا شالت نعامتنا
  كان مقيما بمكة. فلمّا قدمها الوليد بن يزيد سأل عن أحسن الناس غناء وحكاية لابن سريج؛ فقيل له: فيل.
  فدعاه وقال له: امش لي بالدّفّ، ففعل. ثم قال له الوليد: هاته حتى أمشي به، فإن أخطأت فقوّمني. فمشى به أحسن من مشية فيل. فقال له يحيى: جعلت فداءك! إيذن لي حتى أختلف إليك لأتعلَّم منك.
  فمن مشهور صنعته في شعره:
  وصفراء في الكأس كالزعفران ... سباها التّجيبيّ من عسقلان
  تريك القذاة وعرض الإناء ... ستر لها دون لمس البنان
  لحنه فيه خفيف رمل. وفيه لأبي كامل ثاني ثقيل بالسبّابة في مجرى الوسطى عن إسحاق ويونس. ولعمر الواديّ فيه ثقيل أوّل بالوسطى عن يونس والهشاميّ. وقد مضت أخباره مشروحة في المائة الصوت المختارة.
غناء الواثق:
  ومن دوّنت صنعته من خلفاء بني العبّاس الواثق باللَّه.
  ولم نعلمه حكي ذلك عن أحد منهم قبله إلَّا ما قدّمنا سوء العهدة فيه عن ابن خرداذبة؛ فإنه حكى أن للسّفّاح والمنصور وسائرهم غناء وأتى فيها بأشياء غثّة لا يحسن لمحصّل ذكرها.
  غنى الواثق في شعر لأبي العتاهية بحضرة إسحاق ووصله:
  وأخبرني يحيى بن محمد الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن محمد بن إسحاق قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق عن أبيه قال:
  دخلت يوما دار الوائق بغير إذن إلى موضع أمر أن أدخله إذا كان جالسا. فسمعت صوت عود من بيت وترنّما لم أسمع أحسن منه قطَّ، فأطلع خادم رأسه ثم ردّه وصاح بي فدخلت فإذا الواثق. فقال: أيّ شيء سمعت؟ فقلت:
  الطَّلاق لازم لي وكلّ مملوك لي حرّ لقد سمعت ما لم أسمع مثله قطَّ حسنا! فضحك فقال: وما هو! إنما هذه فضلة أدب وعلم مدحه الأوائل واشتهاه أصحاب رسول اللَّه ﷺ وسلم ورحمهم والتابعون بعدهم وكثر في حرم اللَّه ومهاجر رسول اللَّه. أتحبّ أن تسمعه منّي؟ قلت: إي والذي شرّفني بخطابك وجميل رأيك. فقال: يا غلام، هات العود وأعط إسحاق رطلا. فدفع الرّطل إليّ وضرب وغنّى في شعر لأبي العتاهية بلحن صنعه فيه:
  أضحت قبورهم من بعد عزّهم ... تسفي عليها الصّبا والحرجف الشّمل