أخبار فليح بن أبي العوراء
  سليم؛ فخرج إليهما رسول الرشيد يقول لفليح غناؤك من حلق أبي صدقة(١) أحسن منه من حلقك، فعلَّمه إيّاه - قال: وكان يغنّي صوتا يجيده، وهو:
  خير ما نشربها(٢) بالبكر
  - قال: فقال فليح للرسول: قال له: حسبك. قال: فسمعنا ضحكه من وراء السّتارة.
  كانت ترفع الستارة بينه وبين المهدي دون سائر المغنين:
  أخبرني رضوان بن أحمد الصّيدلانيّ قال حدّثنا يوسف بن إبراهيم قال حدّثني أبو إسحاق إبراهيم بن المهديّ قال حدّثنا الفضل بن الربيع:
  أنّ المهديّ كان يسمع المغنّين جميعا، ويحضرون مجلسه، فيغنّونه من وراء السّتارة لا يرون له وجها إلَّا فليح بن أبي العوراء؛ فإنّ عبد اللَّه بن مصعب الزّبيريّ كان يروّيه شعره ويغنّي فيه في مدائحه للمهديّ؛ فدسّ في أضعافها بيتين يسأله فيهما أن ينادمه، وسأل فليحا أن يغنّيهما في أضعاف أغانيه، وهما:
  صوت(٣)
  يا أمين الإله في الشّرق والغر ... ب على الخلق وابن عمّ الرّسول
  مجلسا بالعشيّ عندك في المي ... دان أبغي والإذن لي في الوصول
  / فغنّاه فليح إيّاهما. فقال المهديّ: يا فضل، أجب عبد اللَّه إلى ما سأل، وأحضره مجلسي إذا حضره أهلي ومواليّ وجلست لهم، وزده على ذلك أن ترفع بيني وبين راويته فليح السّتارة؛ فكان فليح أوّل مغنّ عاين وجهه في مجلسهم.
  دعاه محمد بن سليمان بن علي أوّل دخوله بغداد ووصله:
  أخبرني رضوان قال حدّثني يوسف بن إبراهيم قال حدّثني بعد قدومي فسطاط مصر زياد بن أبي الخطَّاب كاتب مسرور خادم الرشيد، قال: سمعت محبوب بن الهفتيّ يحدّث أبي، قال:
  دعاني محمد بن سليمان بن عليّ، فقال لي: قد قدم فليح من الحجاز ونزل عند مسجد ابن رغبان(٤)، فصر إليه، فأعلمه أنّه إن جاءني قبل أن يدخل إلى الرشيد، خلعت عليه خلعة سريّة من ثيابي ووهبت له خمسة آلاف درهم. فمضيت إليه فخبّرته بذلك؛ فأجابني إليه إجابة مسرور به نشيط له. وخرج معي، فعدل إلى حمّام كان بقربه، فدعا القيّم فأعطاه درهمين وسأله أن يجيئه بشيء يأكله ونبيذ يشربه؛ فجاءه برأس كأنه رأس عجل ونبيذ
(١) هو أبو صدقة مسكين بن صدقة أحد مغني عصر الرشيد. ذكر له أبو الفرج ترجمة في (ج ٢١ طبع أوروبا).
(٢) فيء، ط، م: «ما تشربها».
(٣) هذه الكلمة ساقطة فيء، ط، م. ومما يرجح سقوطها أن أبا الفرج لم يذكر طريقة الغناء في هذا الشعر.
(٤) في ح: «ابن زغبان» بالزاي قبل الغين. وفي سائر الأصول: «ابن عتاب» وكلاهما محرّف عن «ابن رغبان». ويقع مسجد ابن رغبان هذا في غربي بغداد وكان مزبلة. قال بعض الدهاقين: مر بي رجل وأنا واقف عند المزبلة التي صارت مسجد ابن رغبان قبل أن تبنى بغداد، فوقف عليها وقال: ليأتين على الناس زمان من طرح في هذا الموضع شيئا فأحسن أحواله أن يحمل ذلك في ثوبه؛ فضحكت تعجبا. فما مرت إلا أيام حتى رأيت مصداق ما قال. (انظر «معجم البلدان» لياقوت ج ٤ ص ٥٢٤ طبع أوروبا).