2 - حرب بكر وتغلب
  أنت بمنته حتى تلحقك بأبيك؛ فأمسك عنه ودخل إلى أمه كئيبا، فسألته عما به فأخبرها الخبر؛ فلما أوى إلى فراشه ونام إلى جنب امرأته وضع أنفه بين ثدييها، فتنفّس تنفّسة تنفّط(١) ما بين ثدييها من حرارتها؛ فقامت الجارية فزعة قد أقلَّتها رعدة حتى دخلت على أبيها، فقصّت عليه قصّة الهجرس؛ فقال جسّاس: ثائر وربّ الكعبة! وبات جسّاس على مثل الرّضف(٢) حتى أصبح؛ فأرسل إلى الهجرس فأتاه، فقال له: إنما أنت ولدي ومنّي بالمكان الذي قد علمت، وقد / زوّجتك ابنتي وأنت معي، وقد كانت الحرب في أبيك زمانا طويلا حتى كدنا نتفانى، وقد اصطلحنا وتحاجزنا، وقد رأيت أن تدخل فيما دخل فيه الناس من الصلح، وأن تنطلق حتى نأخذ عليك مثل ما أخذ علينا وعلى قومنا؛ فقال الهجرس: أنا فاعل، ولكنّ مثلي لا يأتي قومه إلا بلأمته(٣) وفرسه؛ فحمله جسّاس على فرس وأعطاه لأمة ودرعا؛ فخرجا حتى أتيا جماعة من قومهما، فقصّ عليهم جسّاس / ما كانوا فيه من البلاء وما صاروا إليه من العافية، ثم قال: وهذا الفتى ابن أختي قد جاء ليدخل فيما دخلتم فيه ويعقد ما عقدتم؛ فلما قرّبوا(٤) الدم وقاموا إلى العقد أخذ الهجرس بوسط رمحه، ثم قال: وفرسي وأذنيه، ورمحي ونصليه، وسيفي وغراريه، لا يترك الرجل قاتل أبيه وهو ينظر إليه؛ ثم طعن جسّاسا فقتله، ثم لحق بقومه؛ فكان آخر قتيل في بكر بن وائل.
  ترحيل أخت كليب لجليلة عن مأتم زوجها وشعر جليلة في ذلك:
  قال أبو الفرج: أخبرني محمد بن الحسن بن دريد قال حدّثني عمّي عن العبّاس بن هشام عن أبيه عن الشّرقيّ(٥) بن القطاميّ قال:
  لمّا قتل جسّاس بن مرّة كليب بن ربيعة، وكانت جليلة بنت مرّة أخت جساس تحت كليب، اجتمع نساء الحيّ للمأتم، فقلن لأخت كليب: رحّلي جليلة عن مأتمك، فإنّ قيامها فيه شماتة وعار علينا عند العرب؛ فقالت لها:
  يا هذه أخرجي عن مأتمنا، فأنت أخت واترنا وشقيقة قاتلنا؛ فخرجت وهي تجرّ أعطافها؛ فلقيها أبوها مرّة، فقال لها: ما وراءك يا جليلة؟ فقالت: ثكل العدد، وحزن الأبد؛ وفقد حليل، وقتل أخ عن قليل؛ وبين ذين غرس الأحقاد، وتفتّت الأكباد؛ فقال لها: أو يكفّ ذلك كرم الصّفح وإغلاء الدّيات؟ فقالت جليلة: أمنيّة مخدوع وربّ الكعبة! أبا لبدن تدع لك تغلب دم ربّها!. قال: ولمّا رحلت جليلة قالت أخت كليب: رحلة المعتدي وفراق الشامت، ويل غدا لآل مرّة، من الكرّة بعد الكرة!. فبلغ قولها جليلة، فقالت: وكيف تشمت الحرّة بهتك سترها / وترقّب وترها! أسعد اللَّه جدّ أختي، أفلا قالت: نفرة الحياء، وخوف الاعتداء!. ثم أنشأت(٦) تقول:
(١) تنفط: احترق.
(٢) الرضف (بالفتح، واحده رضفة): الحجارة المحماة يوغر (يسخن) بها اللبن، ويقال: هو على الرضف إذا كان قلقا مشخوصا به أو مغتاظا.
(٣) لأمته: سلاحه. وتطلق اللامة على كل عدّة للحرب من درع ورمح وبيضة ومغفر وسيف ونبل.
(٤) كان من عادة العرب أن يحضروا في جفنة طيبا أو دما أو رمادا فيدخلوا فيه أيديهم عند التحالف ليتم عقدهم عليه باشتراكهم في شيء واحد.
(٥) في بعض الأصول: «الشرفي» بالفاء، وهو تصحيف، وقد ضبطه السمعاني بفتح الشين وسكون الراء والقطامي بضم القاف وفتح الطاء وكسر الميم. وضبط كذلك بالعبارة في «تهذيب التهذيب» والخلاصة بفتح الشين والراء وقطامي بضم القاف وفتح الميم.
(٦) قال أبو عبيد اللَّه محمد بن عمران المرزباني في الجزء الثالث من «أشعار النساء» بعد أن ذكر هذه الأبيات ونسبها لجليلة كما ذكر المؤلف هنا: «ووجدت بخط حرميّ بن أبي العلاء قال محمد بن خلف بن المرزبان: هذه الأبيات لفاطمة بنت ربيعة بن الحارث بن مرّة أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة التغلبيين ترثي أخاها كليبا وقتله زوجها جساس» اه.