كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

3 - أخبار دحمان ونسبه

صفحة 310 - الجزء 6

  شيئا / ونستمتع من هذا اليوم؛ فقال: ما كنت لأفعل مع ما تقدم الأمير به إليّ؛ فقالا لي: كأنّا بالأمير قد انحلّ عزمه، وأخذك المطر إلى أن تبلغ، ثم ترجع إلينا مبتلَّا فتقرع الباب وتعود إلى ما سألناك حينئذ. قال: فلم ألتفت إلى قولهما ومضيت، وإذا جعفر مشرف من قصره والمضارب⁣(⁣١) تضرب والقدور تنصب؛ فلما كنت بحيث يسمع تغنّيت:

  وأستصحب الأصحاب حتى إذا ونوا ... وملَّوا من الإدلاج جئتكم وحدي

  قال: وما ذاك؟ فأخبرته؛ فقال: يا غلام، هات مائتي دينار أو أربعمائة دينار - الشك من إسحاق الموصلي - فانثرها في حجر الرّبعيّ، اذهب الآن فلا تحلّ لها عقدة حتى تريهما إياها؛ فقلت: وما في يدي من ذلك! يأتيانك غدا فتلحقهما بي؛ قال: ما كنت لأفعل؛ قلت: / فلا أمضي حتى تحلف لي أنك لا تفعل، فحلف. فمضيت إليهما، فقرعت الباب فصاحا وقالا: ألم نقل لك إن هذه تكون حالك؛ فقلت: كلَّا! فأريتهما الدنانير؛ فقالا: إنّ الأمير لحيّ كريم، ونأتيه غدا فنعتذر إليه فيدعوه كرمه إلى أن يلحقنا بك؛ فقلت: كذبتكما أنفسكما، واللَّه إني قد أحكمت الأمر ووكَّدت عليه الأيمان ألَّا يفعل؛ فقالا: لا وصلتك رحم.

  غنى هو وابن جندب بالعقيق:

  أخبرني الحسين بن يحيى عن حمّاد عن أبيه عن منصور بن أبي مزاحم قال أخبرني عبد العزيز بن الماجشون قال:

  صلَّينا يوما الصبح بالمدينة، فقال قوم: قد سال العقيق، فخرجنا من المسجد مبادرين إلى العقيق، فانتهينا إلى العرصة⁣(⁣٢)، فإذا من وراء الوادي قبالتنا دحمان المعيّ وابن جندب مع طلوع الشمس قد تماسكا بينهما صوتا وهو⁣(⁣٣):

  /

  أسكن البدو ما سكنت ببدو ... فإذا ما حضرت طاب الحضور

  وإذا أطيب صوت في الدنيا. قال: وكان أخي يكره السّماع؛ فلمّا سمعه طرب طربا شديدا وتحرّك؛ وكان لغناء دحمان أشدّ استحسانا وحركة وارتياحا؛ فقال لي: يا أخي، اسمع إلى غناء دحمان، واللَّه لكأنّه يسكب على الماء زيتا.

  نسبة هذا الصوت

  صوت

  أوحش الجنبذان⁣(⁣٤) فالدّير منها ... فقراها فالمنزل المحظور

  أسكن البدو ما أقمت ببدو ... فإذا ما حضرت طاب الحضور


(١) المضارب: جمع مضرب وهو الفسطاط العظيم.

(٢) العرصة (بالفتح): بقعة بين الدور واسعة ليس فيها بناء. وبالعقيق عرصتان من أفضل بقاع المدينة وأكرم أصقاعها. ذكر محمد بن عبد العزيز الزهري عن أبيه أن بني أمية كانوا يمنعون البناء في عرصة العقيق ضنا بها، وأن والي المدينة لم يكن يقطع بها قطيعة إلا بأمر الخليفة.

(٣) كذا في ح. وفي سائر الأصول: «وهو قوله».

(٤) الجنبذ معرب كنبذ بالفارسية، ومعناه: الأزج المدوّر كالقبة. والشاعر هنا يريد به مكانا بعينه.