كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

4 - أخبار أعشى همدان ونسبه

صفحة 333 - الجزء 6

  وإلا تناولهنّ منك برحمة ... يكنّ سبايا والبعولة أعبدا

  تعطَّف أمير المؤمنين عليهم ... فقد تركوا أمر السفاهة والرّدى

  لعلهم أن يحدثوا العام توبة ... وتعرف نصحا منهم وتودّدا

  لقد شمت⁣(⁣١) يا بن الأشعث العام مصرنا ... فظلَّوا وما لاقوا من الطير أسعدا

  كما شاءم اللَّه النّجير⁣(⁣٢) وأهله ... بجدّك من قد كان أشقى وأنكدا

  فقال من حضر من أهل الشام: قد أحسن أيها الأمير، فخلّ سبيله؛ فقال: أتظنون أنه أراد المدح! لا واللَّه! لكنه قال هذا أسفا لغلبتكم إياه وأراد به أن يحرّض أصحابه. ثم أقبل عليه فقال له: أظننت يا عدوّ اللَّه أنك تخدعني بهذا الشعر وتنفلت من يدي حتى تنجو! ألست القائل! ويحك!.

  وإذا سألت: المجد أين محلَّه ... فالمجد بين محمد وسعيد

  / بين الأغرّ وبين قيس باذخ ... بخ بخ لوالده وللمولود

  / واللَّه لا تبخبخ بعدها أبدا. أو لست القائل:

  وأصابني قوم وكنت أصيبهم ... فاليوم أصبر للزمان وأعرف!

  كذبت واللَّه، ما كنت صبورا ولا عروفا. ثم قلت بعده:

  وإذا تصبك من الحوادث نكبة ... فاصبر فكل غيابة ستكشّف

  أما واللَّه لتكوننّ نكبة لا تنكشف غيابتها عنك أبدا! يا حرسيّ، اضرب عنقه؛ فضرب عنقه.

  وذكر مؤرّج السّدوسيّ أن الأعشى كان شديد التحريض على الحجّاج في تلك الحروب، فجال أهل العراق جولة ثم عادوا، فنزل عن سرجه ونزعه عن فرسه، ونزع درعه فوضعها فوق السرج، ثم جلس عليها فأحدث والناس يرونه، ثم أقبل عليهم فقال لهم: لعلكم أنكرتم ما صنعت! قالوا: أوليس هذا موضع نكير؟ قال: لا، كلَّكم قد سلح في سرجه ودرعه خوفا وفرقا، ولكنكم سترتموه وأظهرته؛ فحمي القوم وقاتلوا أشدّ قتال يومهم إلى الليل، وشاعت فيهم الجراح والقتلى، وانهزم أهل الشأم يومئذ، ثم عاودوهم من غد وقد نكأتهم⁣(⁣٣) الحرب؛ وجاء مدد من أهل الشأم؛ فباكروهم القتال وهم مستريحون فكانت الهزيمة وقتل ابن الأشعث. وقد حكيت هذه الحكاية عن أبي كلدة⁣(⁣٤) اليشكريّ أنه فعلها في هذه الوقعة، وذكر ذلك أبو عمرو الشّيباني في أخبار أبي كلدة⁣(⁣٤)، وقد ذكر ما حكاه مع أخباره في موضعه من هذا الكتاب.


(١) رواية هذا البيت في الطبري هكذا:

لقد شأم المصرين فرخ محمد ... بحق وما لاقى من الطير أسعدا

ولعل رواية الأصل كانت: «لقد شأمت» فسهلت الهمزة ثم حذفت. يقال: شأم فلان أصحابه يشأمهم إذا أصابهم شؤم من قبله.

(٢) النجير: حصن باليمن قرب حضر موت منيع، لجأ إليه أهل الردة مع الأشعث بن قيس في أيام أبي بكر ¥ فحاصره زياد بن لبيد البياضي حتى افتتحه عنوة وقتل من فيه وأسر الأشعث بن قيس وذلك في سنة ١٢ للهجرة (راجع «معجم البلدان» لياقوت).

(٣) نكأ (بالهمز) لغة في نكى بمعنى أثخن وأكثر الجرح والقتل.

(٤) في جميع الأصول هنا: «ابن حلزة» وهو تحريف. وقد وردت هذه القصة في أخبار أبي كلدة اليشكري في الجزء العاشر من «الأغاني» (ص ١١٠ - ١٢٠) طبع بولاق. وقد ذكر أبو كلدة هذا في «الشعر والشعراء» و «الطبري» باسم: أبي جلدة (بالجيم) وذكره «اللسان» في مادة: كلد (بالكاف) كما في «الأغاني».