كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

جميلة

صفحة 377 - الجزء 8

  قالت عمّتي: هذا شعر حسن، فكيف به إذا قطَّع ومدّد تمديد الأطربة⁣(⁣١) وضرب عليها بقضبان الدّفلى⁣(⁣٢) على بطون المعزى! فما مضت الأيام والليالي حتى سمعت اللحن مؤدّى، فما خرق مسامعي شيء قطَّ أحسن منه؛ ولقد أذكرني بما يؤثر من حسن صوت داود وجمال يوسف. فبينا أنا يوما جالسة⁣(⁣٣) إذ طلع عليّ إبراهيم ضاحكا مستبشرا؛ فقال لي: ألا أحدّثك بعجب؟ قلت: وما هو؟ قال: إن لي شريكا / في عشق صوت جميلة. قلت: وكيف ذلك؟ قال:

  كنت عند سياط في يومنا هذا وأنا أغنّيه الصوت وقد وقّفني فيه على شيء لم أكن أحكمته عن يونس، وحضر عند سياط شيخ نبيل فسبّح على الصوت تسبيحا طويلا، فظننت أنه فعل ذلك لاستحسانه الصوت. فلما فرغت أنا وسياط من اللحن قال الشيخ: ما أعجب أمر هذا الشعر وأحسن ما غنّي به وأحسن ما قال قائله!. فقلت له دون القوم: وما بلغ من العجب به؟ قال: نعم! حجّت سبيعة من ولد عبد الرحمن بن أبي بكرة، وكانت من أجمل النساء، فأبصرها عمر بن أبي ربيعة، فلما انحدرت إلى العراق اتّبعها يشيّعها حتى بلغ معها موضعا يقال له الخورنق. فقالت له: لو بلغت إلى أهلي وخطبتني لزوّجوك. فقال لها: ما كنت لأخلط تشييعي إياك بخطبة، ولكن أرجع ثم آتيكم خاطبا؛ فرجع ومرّ بالمدينة فقال فيها:

  قال ابن أبي ربيعة شعرا في سبيعة فلحنته وعلمته جارية من جواريه

  :

  من البكرات عراقيّة ... تسمّى سبيعة أطريتها

  ثم أتى بيت جميلة فسألها أن تغنّي بهذا الشعر ففعلت. فأعجبه ما سمع من حسن غنائها وجودة تأليفها، فحسن موقع ذلك منه، فوجّه إلى بعض موالياته ممن كانت تطلب الغناء أن تأتي جميلة وتأخذ الصوت منها؛ فطارحتها إياه أيّاما حتى حذقت ومهرت به. فلما رأى ذلك عمر قال: أرى أن تخرجي إلى سبيعة وتغنّيها هذا الصوت وتبلَّغيها رسالتي؛ قالت: نعم. جعلني اللَّه فداك. فأتتها فرحّبت بها، وأعلمتها الرسالة، فحيّت وأكرمت، ثم غنّتها فكادت أن تموت فرحا وسرورا لحسن الغناء والشعر. ثم عادت رسول عمر فأعلمته ما كان وقالت له: إنها خارجة في تلك السنة.

  حج سبيعة ثانية وسؤالها جميلة أن تغنيها بشعر عمر فيها

  : فلما كان أوان الحج استأذنت سبيعة أباها في الحج، فأبى عليها وقال لها: قد حججت حجّة الإسلام. قالت له: تلك الحجّة هي التي أسهرت ليلي وأطالت / نهاري / وتوّقتني⁣(⁣٤) إلى أن أعود وأزور البيت وذلك القبر؛ وإن أنت لم تأذن لي متّ كمدا وغمّا؛ وذلك أن بقائي إنما كان لحضور الوقت، فإن يئست فالموت لا شكّ نازل بي.

  فلما رأى ذلك أبوها رقّ لها وقال: ليس يسعني منعها مع ما أرى بها، فأذن لها. ووافى عمر المدينة ليعرف خبرها؛ فلما قدمت علم بذلك. وسألها أن تأتى منزل جميلة، وقد سبق إليه عمر، فأكرمتها جميلة وسرّت بمكانها. فقالت لها سبيعة: جعلني اللَّه فداك! أقلقني وأسهرني صوتك بشعر عمر فيّ، فأسمعيني إيّاه. قالت جميلة: وعزازة لوجهك الجميل! فغنّتها الصوت، فأغمي عليها ساعة حتى رشّ على وجهها الماء وثاب إليها عقلها. ثم قالت: أعيدي عليّ، فأعادت الصوت مرارا في كل مرّة يغشى عليها. ثم خرجت إلى مكة وخرج معها. فلما رجعت مرّت بالمدينة وعمر


(١) هذا جمع غريب.

(٢) الدفلي: نبت مر زهره كالورد الأحمر، وحمله كالخروب، وألفه للإلحاق عند جماعة فينوّن نكرة، وللتأنيث عند آخرين فلا ينون.

(٣) في جميع الأصول: «جالس».

(٤) كذا في ب، س. وفي سائر الأصول: «وذوبت قلبي أن أعود ... إلخ».