جميلة
  معها، فأتت جميلة فقالت لها: أعيدي عليّ الصوت ففعلت؛ وأقامت عليها(١) ثلاثا تسألها أن تعيد الصوت. فقالت لها جميلة: إني أريد أن أغنّيك صوتا فاسمعيه. قالت: هاتيه يا سيّدتي؛ فغنّتها:
  أبت المليحة أن تواصلني ... وأظنّ أني زائر رمسي
  لا خير في الدنيا وزينتها ... ما لم توافق نفسها نفسي
  لا صبر لي عنها إذا حسرت ... كالبدر أو قرن من الشمس
  ورمت فؤادك عند نظرتها ... بملاحة الإيثار(٢) والأنس
  قالت سبيعة: لولا أنّ الأوّل شعر عمر لقدّمت هذا على كلّ شيء سمعته. فقال عمر: فإنه واللَّه أحسن من ذلك، فأمّا الشعر فلا. قالت جميلة: صدقت واللَّه. قالت عمّتي قال لها أبي: لعمري إنّ ذلك على ما قالا.
  / ولابن سريج في هذا الشعر لحن عن جميلة وربما حكي بزيادة أو نقصان أو مثلا بمثل.
  جمعت الناس في دارها وقصت عليهم رؤياها واعتزامها ترك الغناء فاختلفوا وخطب شيخ يحبذ الغناء فرجعت
  : أخبرني من يفهم الغناء قال:
  بلغني أنّ جميلة قعدت يوما على كرسيّ لها وقالت لآذنتها: لا تحجبي عنّا أحدا اليوم، واقعدي بالباب، فكل من يمرّ بالباب فاعرضي عليه مجلسي؛ ففعلت ذلك حتى غصّت الدار بالناس؛ فقالت جميلة: اصعدوا إلى العلاليّ؛ فصعدت جماعة حتى امتلأت السطوح. فجاءتها بعض جواريها فقالت لها: يا سيّدتي، إن تمادى أمرك على ما أرى لم يبق في دارك حائط إلَّا سقط، فأظهري ما تريدين. قالت: اجلسي. فلما تعالى النهار واشتدّ الحرّ استستقى الناس الماء فدعت لهم بالسّويق(٣)، فشرب من أراد؛ فقالت: أقسمت على كل رجل وامرأة دخل منزلي إلَّا شرب، فلم يبق في سفل الدار ولا علوها أحد إلَّا شرب، وقام على رؤوسهم الجواري بالمناديل والمراوح الكبار، وأمرت جواريها فقمن على كراسيّ(٤) صغار فيما بين كلّ عشرة نفر جارية تروّح. ثم قالت لهم: إنّي قد رأيت في منامي شيئا أفزعني وأرعبني(٥)، ولست أعرف ما سبب ذلك، وقد خفت أن يكون قرب أجلي، وليس ينفعني إلَّا صالح عملي، وقد رأيت أن أترك الغناء كراهة أن يلحقني منه شيء عند ربي. فقال قوم منهم: وفّقك اللَّه وثبّت عزمك! وقال آخرون: بل لا حرج عليك في الغناء. وقال شيخ منهم ذو سنّ وعلم وفقه وتجربة: قد تكلمت الجماعة، وكلّ حزب بما لديهم فرحون، ولم أعترض عليهم في قولهم ولا شركتهم في رأيهم، فاستمعوا الآن لقولي وأنصتوا / ولا تشغبوا إلى وقت انقضاء كلامي؛ فمن قبل قولي فاللَّه موفّقه، ومن خالفني فلا بأس عليه إذ كنت في طاعة ربي.
  فسكت القوم جميعا. فتكلَّم الشيخ فحمد اللَّه وأثنى عليه وصلَّى على محمد النبيّ ﷺ ثم قال: يا معشر أهل الحجاز، إنكم متى تخاذلتم فشلتم ووثب عليكم عدوّكم وظفر بكم ولا تفلحوا بعدها أبدا. إنكم قد انقلبتم على
(١) في ب، س: «عليه».
(٢) كذا، في ب، س. وفي سائر الأصول هكذا: «الأنياب» أو الأيناب. وجميع الروايات غير ظاهرة.
(٣) السويق: شراب يتخذ من الحنطة والشعير.
(٤) كلمة: «على كراسيّ صغار» ساقطة من ب، س.
(٥) ذكر ابن الأعرابي في نوادره وثعلب في «الفصيح» أنه لا يقال: «أرعبه» بالهمز، وتبعهما الجوهري، وغيرهم رأى جوازه. (راجع «شرح القاموس» مادة رعب).