جميلة
  كذا(١) وكان في عزمي المرور بها. فأمّا إذا وافق ذلك مرادها فإنّي جاعل بعد رجوعي طريقي عليها. فلمّا صار إلى بابها أدخل بعض من كان معه إليها وصرف بعضهم. فنظر إلى ذلك الحسن البارع والهيئة الباذّة(٢)، فأعجبه ووقع من نفسه؛ فقال: يا جميلة! لقد أوتيت خيرا كثيرا، ما أحسن ما صنعت!. فقالت: يا سيّدي، إنّ الجميل للجميل يصلح، ولك هيّأت هذا المجلس. فجلس عبد اللَّه بن جعفر وقامت على رأسه وقامت الجواري صفّين؛ / فأقسم عليها فجلست غير بعيد. ثم قالت: يا سيّدي، ألا أغنّيك؟ قال: بلى! فغنّت:
  /
  بني شيبة(٣) الحمد الَّذي كان وجهه ... يضيء ظلام اللَّيل كالقمر البدر
  كهولهم خير الكهول ونسلهم ... كنسل الملوك لا يبور ولا يحرى(٤)
  أبو عتبة الملقي إليك جماله ... أغرّ هجان اللَّون من نفر زهر
  لساقي(٥) الحجيج ثم للخير هاشم ... وعبد مناف ذلك السيّد الغمر
  أبوكم قصيّ كان يدعى مجمّعا ... به جمّع اللَّه القبائل من فهر
  فقال عبد اللَّه: أحسنت يا جميلة وأحسن حذافة ما قال! باللَّه أعيديه عليّ فأعادته، فجاء الصوت أحسن من الارتجال. ثم دعت لكل جارية بعود وأمرتهنّ بالجلوس على كراسيّ صغار قد أعدّتها لهنّ، فضربن وغنّت عليهنّ هذا الصوت وغنّى جواريها على غنائها. فلمّا ضربن جميعا قال عبد اللَّه: ما ظننت أنّ مثل هذا يكون! وإنّه لممّا يفتن القلب! ولذلك كرهه كثير من الناس لما علموا فيه. ثم دعا ببغلته فركبها وانصرف إلى منزله. وقد كانت جميلة أعدّت طعاما كثيرا، وكان أراد المقام، فقال لأصحابه: تخلَّفوا للغداء، فتغدّوا وانصرفوا مسرورين. وهذا الشعر لحذافة(٦) بن غانم(٧) بن عبيد اللَّه بن عويج بن عديّ بن كعب يمدح به عبد المطَّلب.
  أراد العرجي أن ينزل عليها حين فرّ من مكة فأبت وأنزلته على الأحوص
  : قال وحدّثني بعض المكَّيين قال:
  كان العرجيّ (وهو عبد اللَّه بن عمرو بن عثمان) شاعرا سخيّا شجاعا أديبا ظريفا. ويشبّه شعره بشعر عمر بن أبي ربيعة والحارث بن خالد بن هشام وإن كانا قدّما عليه؛ وقد نسب كثير من شعره إلى شعرهما، وكان صاحب صيد. فخرج يوما متنزّها من مكَّة ومعه جماعة من غلمانه ومواليه ومعه كلابه وفهوده وصقوره وبوازيه نحو الطائف
(١) في ب، س: «إلى موضع كذا وكذا».
(٢) الهيئة الباذة: الغالبة الفائقة، وفي ح: «والهيئة البارزة».
(٣) شيبة الحمد: لقب عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف، لقب بذلك لكثرة حمد الناس له، لأنه كان مفزع قريش في النوائب وملجأهم في الأمور، فكان شريف قريش وسيدها كمالا وفعالا غير مدافع. وقيل: لأنه ولد في رأسه شيبة، وفي لفظ كان وسط رأسه أبيض، أو سمى بذلك تفاؤلا بأن يبلغ سن الشيب. (راجع «ما يعوّل عليه في المضاف والمضاف إليه»). وفيه: وبنو شيبة الحمد.
(٤) يبور: يهلك: ويحرى: ينقص.
(٥) ساقي الحجيج هو عبد المطلب هذا، فهو الذي حفر زمزم.
(٦) في «السيرة لابن هشام» و «معجم البلدان» لياقوت: «حذيفة». وقد نسب هذا الشعر أيضا لمطرود ابن كعب الخزاعي الشاعر. (راجع الطبري ص ١٠٨٨، ١٠٩٥ من القسم الأول طبع أوروبا، وصفحة ٥ من «كتاب الأوائل» لأبي هلال العسكري المخطوط والمحفوظ بدار الكتب المصرية تحت رقم ٢٧٧٣ تاريخ).
(٧) في الأصول: «عامر» وهو تحريف. (راجع «الطبري» ص ١٠٩٥ من القسم الأول طبع أوروبا و «معجم البلدان» لياقوت ج ٢ ص ١٤٤ طبع أوروبا والسيرة ج ١ ص ٩٦، ١١١ طبع أوروبا، «وما يعوّل عليه في المضاف والمضاف إليه»).