كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

غناء الواثق

صفحة 198 - الجزء 9

  حاجة مهمّة فيها بعض الشيء. فإن أذنت لنا قلنا. قال: قولوا. فذكر يمين الرجل والشعر. فقال: أمّا قوله «إن التي ناولتني⁣(⁣١)» هي الخمرة. وقوله: «قتلت» يعني مزجت بالماء. وقوله: «كلتاهما حلب العصير» يعني به الخمر ومزاجها، فالخمر عصير العنب، والماء عصير السّحاب؛ قال اللَّه ø: {وأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً} انصرفوا إذا شئتم.

  غناؤه لحنا على مثال لحن لمخارق:

  أخبرني محمد بن يحيى قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلَّبيّ عن أبيه قال:

  غنّى مخارق يوما بحضرة الواثق:

  حتى إذا الليل خبا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم⁣(⁣٢)

  / خرجت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم

  فاستملح الواثق الشعر واللحن، فصنع في نحوه:

  قالت إذا الليل دجا فأتنا ... فجئتها حين دجا الليل

  خفيّ وطء الرّجل من حارس ... ولو درى حلّ بي الويل

  ولحنه فيه من الرّمل. وصنع فيه الناس ألحانا بعده: منها لعريب خفيف رمل، ومنها ثقيل أوّل لا أعلم لمن هو؛ وسمعت ذكاء ومحمد بن إبراهيم قريضا يغنّيانه وذكرا أنهما أخذاه عن أحمد بن أبي العلاء، ولا أدري لمن هو.

  تحدّث إسحاق إليه بقصة أعرابيّ عاشق وغنى في شعره فوصله ووصل الأعرابيّ:

  حدّثني محمد بن مزيد بن أبي الأزهر قال حدّثنا حمّاد بن إسحاق قال حدّثني أبي قال:

  سرت إلى سرّمن رأى بعد قدومي من الحجّ، فدخلت إلى الواثق فقال: بأي شيء أطرفتني من أحاديث الأعراب وأشعارهم؟ فقلت: يا أمير المؤمنين جلس إليّ فتى من الأعراب في بعض المنازل، فحادثني فرأيت منه أحلى ما رأيت من الفتيان منظرا وحديثا وأدبا. فاستنشدته فأنشدني:

  سقى العلم الفرد الذي في ظلاله ... غزالان مكحولان مؤتلفان

  إذا أمنا التفّا بجيدي تواصل ... وطرفاهما للرّيب مسترقان⁣(⁣٣)

  أرغتهما ختلا فلم أستطعهما ... ورميا ففاتاني وقد قتلاني

  ثم تنفّس تنفّسا ظننت أنه قد قطع حيازيمه. فقلت: مالك بأبي أنت؟ فقال: إن لي وراء هذين الجبلين شجنا، وقد حيل بيني وبين المرور به ونذروا دمي، وأنا أتمتّع بالنظر إلى الجبلين تعلَّلا بهما إذا قدم الحاجّ، ثم يحال بيني وبين ذلك. فقلت له: زدني مما قلت في ذلك. فأنشدني:

  /

  إذا ما وردت الماء في بعض أهله ... حضور فعرّض بي كأنّك مازح


(١) الرواية المتقدمة في البيت: ... عاطيتني».

(٢) الجوزاء: برج في السماء، سميت بذلك لأنها معترضة في جوز السماء أي وسطها. والمرزمان: نجمان مع الشعريين.

(٣) الاستراق: اختلاس النظر والسمع، ومثله التسرق والمسارقة.