كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

غناء الواثق

صفحة 199 - الجزء 9

  فإن سألت عنّي حضور فقل لها ... به غبّر⁣(⁣١) من دائه وهو صالح

  فأمرني الواثق فكتبت له الشعرين. فلمّا كان بعد أيّام دعاني فقال: قد صنع بعض عجائز دارنا الشعرين لحنا فاسمعه، فإن ارتضيته أظهرناه وإن رأيت فيه موضع إصلاح أصلحته. فغنّي لنا من وراء الستار، فكان في نهاية الجودة، وكذلك كان يفعل إذا صنع شيئا. فقلت له: أحسن واللَّه صانعه يا أمير المؤمنين ما شاء!. فقال: بحياتي؟

  فقلت: وحياتك، / وحلفت له بما وثق به، وأمر لي برطل فشربته، ثم أخذ العود فغنّاه ثلاث مرات، وسقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم. فلما كان بعد أيّام دعاني فقال: قد صنع أيضا عندنا في الشعر الآخر، وأمر فغنّي به؛ فكانت حالي فيه مثل الحال في الأوّل. فلما استحسنته وحلفت له على جودته ثلاث مرات، سقاني ثلاثة أرطال وأمر لي بثلاثين ألف درهم. ثم قال لي: هل قضيت حقّ هديّتك؟ فقلت: نعم يا أمير المؤمنين؛ فأطال اللَّه بقاءك، وتمّم نعمتك، ولا أفقدنيها منك وبك. ثم قال: لكنك لم تقض حقّ جليسك الأعرابيّ ولا سألتني معونته على أمره، وقد سبقت مسألتك وكتبت بخبره إلى صاحب الحجاز وأمرته بإحضاره، وخطبت المرأة له وحمل صداقها إلى قومها عنه من مالي. فقبّلت يديه وقلت: السّبق إلى المكارم لك، وأنت أولى بها من عبدك ومن سائر الناس.

  نسبة ما في هذه الأخبار من الأغاني:

  منها الصوتان اللذان في الأخبار المتقدّمة.

  صوت

  حتى إذا الليل خبا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم

  أقبلت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم

  ذكر يحيى المكيّ أنّ اللحن لابن سريج رمل بالسبّابة في مجرى البنصر، وذكر الهشاميّ أنه منحول.

  طرب شيخ لسماع مغنية فرمى بنفسه في الفرات:

  فأخبرني أحمد بن عبيد اللَّه بن عمّار وإسماعيل بن يونس وغيرهما قالوا حدّثنا عمر بن شبّة قال حدّثني إسحاق بن إبراهيم عن ابن كناسة قال:

  إصطحب شيخ مع شباب في سفينة في الفرات ومعهم مغنّية. فلمّا صاروا في بعض الطريق قالوا للشيخ: معنا جارية لبعضنا وهي مغنّية، فأحببنا أن نسمع غناءها فهبناك، فإن أذنت لنا فعلنا. قال: أنا أصعد إلى طلل⁣(⁣٢) السفينة، فاصنعوا أنتم ما شئتم. فصعد، وأخذت الجارية عودها فغنّت:

  حتى إذا الصبح بدا ضوءه ... وغابت الجوزاء والمرزم

  أقبلت والوطء خفيّ كما ... ينساب من مكمنه الأرقم


(١) غبر الشيء: بقيته.

(٢) في الأصول: «ظلال السفينة» بالظاء المعجمة. والتصويب عن كتب اللغة. وطلل السفينة: جلالها، وهو غطاء تغشى به كالسقف للبيت.