غناء المنتصر
  قال: وكان أبي يستجيد هذين البيتين ويستحسنهما. ونذكرها هنا شيئا من أخبار المنتصر في هذا المعنى دون غيره أسوة ما فعلنا في نظرائه.
  أراد الشرب علانية فجاء الناس ليروه فقال شعرا فتفرقوا:
  أخبرني محمد بن يحيى الصّوليّ قال حدّثني محمد بن يحيى بن أبي عبّاد قال حدّثني أبي قال:
  أراد المنتصر أن يشرب في الزّقاق، فوافى الناس من كل وجه ليروه ويخدموه؛ فوقف على شاطئ دجلة وأقبل على الناس فقال:
  لعمري لقد أصحرت خيلنا ... بأكناف دجلة للملعب
  والشعر «بأكناف دجلة للمصعب» ولكنّه غيّره لأنه تطيّر من ذكر المصعب -
  فمن يك منّا يبت آمنا ... ومن يك من غيرنا يهرب
  قال: فعلم أنه يريد الخلوة بالنّدماء والمغنّين، فانصرفوا، فلم يبق معه إلَّا من يصلح للأنس والخدمة.
  جفا يزيد المهلبي لاختصاصه بالمتوكل ثم عفا عنه وأكرمه:
  حدّثني الصّوليّ قال حدّثني أحمد بن يزيد المهلَّبيّ قال: كان أبي أخصّ الناس بالمنتصر، وكان يجالسه قبل مجالسته المتوكَّل. فدخل المتوكَّل يوما على المنتصر على غفلة، فسمع كلامه فاستحسنه، فأخذه إليه وجعله في جلسائه. وكان المنتصر يريد منه أن يلازمه كما كان، فلم يقدر على ذلك لملازمته أباه؛ فعتب عليه لتأخّره عنه على ثقة بمودّة وأنس به. فلما أفضت إليه الخلافة استأذن عليه؛ فحجبه وأمر بأن يعتقل في الدار فحبس أكثر يومه. ثم أذن له فدخل وسلَّم وقبّل الأرض بين يديه ثم قبّل يده، فأمره بالجلوس؛ ثم التفت إلى بنان بن عمرو وقال له: غنّ، وكان العود في يده:
  غدرت ولم أغدر وخنت ولم أخن ... ورمت بديلا بي ولم أتبدّل
  - قال: والشعر للمنتصر - فغنّاه بنان. وعلم أبي أنه أراده بذلك فقام فقال: واللَّه ما اخترت / خدمة غيرك ولا صرت إليها إلَّا بعد إذنك. فقال: صدقت؛ إنما قلت هذا مازحا؛ أتراني أتجاوز بك حكم اللَّه ø إذ يقول: {ولَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِه ِ ولكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وكانَ أللهُ غَفُوراً رَحِيماً}. ثم استأذنه في الإنشاد فأذن له فأنشده:
  ألا يا قوم قد برح الخفاء ... وبان الصبر منّي والعزاء
  تعجّب صاحبي لضياع مثلي ... وليس لداء محروم دواء
  جفاني سيّد قد كان برّا ... ولم أذنب فما هذا الجفاء
  حللت بداره وعلمت أنّي ... بدار لا يخيب بها الرجاء
  فلمّا شاب رأسي في ذراه ... حجبت بعقب ما بعد اللَّقاء(١)
  فإن(٢) تنأى ستور الإذن عنّا ... فما نأت المحبّة والثناء
(١) كذا في أ. وفي سائر الأصول: «ما يعد الرخاء» وهو تحريف.
(٢) في ح: «تثني».