أخبار دريد بن الصمة ونسبه
  أبناء معاوية فظفر بهم وساق أموالهم في يوم يقال له يوم اللَّوى ومضى بها. ولما كان منهم غير بعيد قال: انزلوا بنا، فقال له / أخوه دريد: يا أبا فرعان - وكانت لعبد اللَّه ثلاث كنى: أبو فرعان، وأبو ذفافة، وأبو أوفى، وكلَّها قد ذكرها دريد في شعره -: نشدتك اللَّه ألَّا تنزل فإنّ غطفان ليست بغافلة عن أموالها، فأقسم لا يريم حتى يأخذ مرباعه(١) وينقع نقيعه(٢)، فيأكل ويطعم ويقسم البقيّة بين أصحابه، فبينا هم في ذلك وقد سطعت الدّواخن، إذا بغبار قد ارتفع أشدّ من دخانهم، وإذا عبس وفزارة وأشجع قد أقبلت فقالوا لربيئتهم(٣): انظر ما ذا ترى؟ فقال أرى قوما جعادا كأن سرابيلهم قد غمست في الجاديّ(٤) قال: تلك أشجع، ليست بشيء. ثم نظر فقال: أرى قوما كأنهم الصّبيان، أسنّتهم عند آذان خيلهم. / قال: تلك فزارة. ثم نظر فقال: أرى قوما أدمانا(٥) كأنما يحملون الجبل(٦) بسوادهم، يخدّون(٧) الأرض بأقدامهم خدّا، ويجرّون رماحهم جرّا، قال: تلك عبس والموت معهم! فتلاحقوا بالمنعرج من رميلة اللَّوى فاقتتلوا فقتل رجل من بني قارب وهم من بني عبس عبد اللَّه بن الصّمّة فتنادوا: قتل أبو ذفافة! فعطف دريد فذبّ عنه فلم يغن شيئا وجرح دريد فسقط فكفّوا عنه وهم يرون أنه قتل، واستنقذوا المال ونجا من هرب. فمرّ الزّهدمان وهما من بني عبس، وهما زهدم وقيس ابنا حزن بن وهب بن رواحة وإنما قيل لهم الزّهدمان تغليبا لأشهر الاسمين عليهما، كما قيل العمران لأبي بكر وعمر ®، والقمران للشمس والقمر. قال دريد: فسمعت زهدما العبسيّ يقول لكردم الفزاريّ إني لأحسب دريدا حيّا / فانزل فأجهز عليه، قال: قد مات، قال: انزل فانظر إلى سبّته(٨) هل ترمّز؟ قال دريد: فسددت من حتارها(٩) أي من شرجها، قال فنظر فقال: هيهات، أي قد مات، فولَّى عنّي، قال ومال بالزّجّ في شرج دريد فطعنه فيه فسال دم كان قد احتقن في جوفه، قال دريد فعرفت الخفّة حينئذ فأمهلت، حتى إذا كان الليل مشيت وأنا ضعيف قد نزفني(١٠) الدّم حتى ما أكاد أبصر، فجزت بجماعة تسير(١١) فدخلت فيهم، فوقعت بين عرقوبي بعير ظعينة، فنفر البعير فنادت: نعوذ باللَّه منك، فانتسبت لها فأعلمت الحيّ بمكاني، فغسل عنّي الدم وزوّدت زادا وسقاء فنجوت، وزعم بعض الغطفانيّين أن المرأة كانت فزاريّة وأنّ الحيّ كانوا علموا بمكانه فتركوه فداوته المرأة حتى برأ ولحق بقومه، قال: ثم حجّ كردم بعد ذلك في نفر من بني عبس، فلما قاربوا ديار دريد تنكَّروا خوفا، ومرّ بهم فأنكرهم، فجعل يمشي فيهم ويسألهم من هم؟ فقال له كردم: عمّن تسأل؟ فدفعه دريد، وقال:
  أمّا عنك وعمّن معك فلا أسأل أبدا، وعانقه، وأهدي إليه فرسا وسلاحا، وقال له: هذا بما فعلت بي يوم اللَّوى.
(١) المرباع بكسر أوله: ربع الغنيمة، وهو حظ الرئيس في الجاهلية.
(٢) نقع الشيء في الماء وغيره ينقعه (من باب فتح) فهو نقيع، ومثله أنقعه. نبذه: أي اتخذ منه النبيذ.
(٣) الربيئة: الطليعة.
(٤) الجاديّ: الزعفران.
(٥) الأدمان: جمع آدم على مثال سودان وحمران. والآدم من الناس: الأسمر.
(٦) في ج م: «الأرض».
(٧) يخدون: يشقون.
(٨) السبة بالضم: الاست. وترمز (بحذف إحدى تاءيها): تضطرب وتتحرك.
(٩) الحتار بالكسر: ما أحاط بالشيء كحتار الغربال والمنخل.
(١٠) يقال: نزف الدم فلانا فهو منزوف ونزيف أي سال منه دم كثير حتى يضعف.
(١١) في «أ، م»: «قيس».