كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

5 - ذكر نصيب وأخباره

صفحة 259 - الجزء 1

  مات، فباعه عمّه أخو أبيه من عبد العزيز بن مروان.

  مبدأ قوله الشعر واتصاله بعبد العزيز بن مروان بمصر

  قال حمّاد وأخبرني أبي عن أيّوب بن عبابة، وأخبرنا الحرميّ عن الزّبير عن عمّه وعن إسحاق بن إبراهيم جميعا عن أيّوب بن عبابة قال حدّثني رجل من خزاعة من أهل⁣(⁣١) كليّة - وهي قرية كان فيها النّصيب وكثيّر - قال:

  بلغني أنّ النّصيب قال: قلت الشّعر وأنا شابّ فأعجبني قولي، فجعلت آتي مشيخة من بني ضمرة بن بكر بن عبد مناة - وهم موالي النّصيب - ومشيخة من خزاعة، فأنشدهم القصيدة من شعري، ثم أنسبها إلى بعض شعرائهم الماضين، فيقولون: أحسن واللَّه! هكذا يكون الكلام! وهكذا يكون الشّعر! فلمّا سمعت ذلك منهم علمت أني محسن، فأزمعوا وأزمعت⁣(⁣٢) الخروج إلى عبد العزيز بن مروان، وهو يومئذ بمصر، فقلت لأختي أمامة وكانت عاقلة جلدة: أي أخيّة، إنّي قد قلت شعرا، وأنا أريد عبد العزيز بن مروان، وأرجو أن يعتقك اللَّه ø به وأمّك، / ومن كان مرقوقا من أهل قرابتي. قالت: إنّا للَّه وإنّا إليه راجعون! يا بن أمّ، أتجتمع عليك الخصلتان: السّواد، وأن تكون ضحكة⁣(⁣٣) للناس! قال: قلت فاسمعي، فأنشدتها فسمعت، فقالت: بأبي أنت! أحسنت واللَّه! في هذا واللَّه رجاء عظيم، فأخرج على بركة اللَّه. فخرجت على قعود لي حتى قدمت المدينة، فوجدت بها الفرزدق في مسجد رسول اللَّه ÷، فعرّجت إليه فقلت: أنشده وأستنشده وأعرض عليه شعري.

  فأنشدته، فقال لي: ويلك! أهذا شعرك الذي تطلب به الملوك؟ قلت: نعم. قال: فلست في شيء. إن استطعت أن تكتم هذا على نفسك فافعل. فانفضخت عرقا⁣(⁣٤)، فحصبني⁣(⁣٥) رجل من قريش كان قريبا من الفرزدق، وقد سمع إنشادي وسمع ما قال لي الفرزدق، فأومأ إليّ فقمت إليه. فقال: ويحك! أهذا شعرك الذي أنشدته الفرزدق؟

  قلت: نعم. فقال: قد واللَّه أصبت، واللَّه لئن كان هذا الفرزدق شاعرا لقد حسدك، فإنّا لنعرف محاسن الشعر، فامض لوجهك ولا يكسرنّك. قال: فسرّني قوله، وعلمت أنه قد صدقني فيما قال، فاعتزمت على المضيّ.

  قال: فمضيت فقدمت مصر، وبها عبد العزيز بن مروان، فحضرت بابه مع الناس، فنحّيت عن مجلس الوجوه، فكنت وراءهم، ورأيت رجلا جاء على بغلة حسن الشّارة سهل المدخل، يؤذن له إذا جاء. فلمّا انصرف إلى منزله انصرفت معه أماشي بغلته. فلما رآني قال: ألك حاجة؟ قلت: نعم، أنا رجل من أهل الحجاز شاعر، وقد مدحت الأمير وخرجت إليه راجيا معروفه. وقد ازدريت فطردت من الباب ونحّيت عن الوجوه. قال: فأنشدني، فأنشدته.

  فأعجبه شعري، فقال: ويحك! أهذا شعرك؟ فإيّاك أن تنتحل، فإنّ الأمير / رواية عالم بالشّعر وعنده رواة، فلا تفضحني ونفسك. فقلت: واللَّه ما هو إلا شعري. فقال: ويحك! فقل أبياتا تذكر فيها حوف⁣(⁣٦) مصر وفضلها على غيرها، والقني بها غدا. فغدوت عليه من غد فأنشدته قولي:


(١) كلية (بالضم والفتح وتشديد الياء): واد يأتي من شمنصير بقرب الجحفة. وبكلية على ظهر الطريق ماء آبار يقال لتلك الآبار كلية، وبها سمى الوادي، وكان النصيب يسكنها.

(٢) في ت، ح، ر: «فأجمعوا وأجمعت».

(٣) الضحكة (بضم فسكون): من يضحك منه الناس. والضّحكة (بضم ففتح): من يضحك من الناس كثيرا.

(٤) فانفضخت عرقا: تدفقت عرقا.

(٥) حصبني: رماني بالحصباء.

(٦) الحوف بمصر: حوفان الشرقيّ والغربيّ وهما متصلان، أوّل الشرقيّ من جهة الشأم، وآخر الغربي قرب دمياط، يشتملان على بلدان وقرى كثيرة. وحوف رمسيس: موضع آخر بمصر.