أخبار النابغة ونسبه
  فنونا في الأحاديث، وإنما لنا فنّ واحد؛ فإن رأيت ألَّا تحملني على أكتاف قومك فأدعهم حرضا(١)!. فقلت: لا أعرض لك في شيء من الشعر أبدا، فأقلني في هذه المرّة. قال: من يتكفّل بك؟ قلت: أمير المؤمنين. فقال عبد الملك: هو عليّ ألَّا يعرض لك أبدا؛ ثم قال: يا شعبيّ، أيّ نساء الجاهليّة أشعر؟ قلت: خنساء. قال: ولم فضّلتها على غيرها؟ قلت: لقولها:
  وقائلة والنّعش(٢) قد فات خطوها ... لتدركه يا لهف نفسي على صخر
  ألا ثكلت أمّ الذين غدوا به ... إلى القبر! ماذا يحملون إلى القبر
  فقال عبد الملك: أشعر منها واللَّه التي تقول(٣): ... مهفهف(٤) الكشح والسربال منخرق
  عنه القميص لسير الليل محتقر ... / لا يأمن الناس ممساه ومصبحه ... في كلّ فجّ وإن لم يغز ينتظر(٥)
  ثم قال: يا شعبيّ، لعلَّك شقّ عليك ما سمعت. قلت: إي واللَّه يا أمير المؤمنين أشدّ المشقّة. إني أحدّثك منذ شهرين لم أفدك(٦) إلَّا أبيات النابغة في الغلام. قال: يا شعبيّ، إنما أعلمتك هذا لأنه بلغني أنّ أهل العراق يتطاولون على أهل الشام، يقولون: إن كانوا غلبونا على الدولة فلم يغلبونا على العلم والرواية؛ وأهل الشأم أعلم بعلم أهل العراق من أهل العراق؛ ثم ردّ عليّ الأبيات أبيات ليلى(٧) حتى حفظتها، ولم أزل عنده؛ فكنت أوّل داخل وآخر خارج. قال: فمكثت كذلك سنين(٨)، وجعلني في ألفين من العطاء وعشرين رجلا من ولدي وأهل بيتي في ألفين ألفين؛ فبعثني إلى أخيه عبد العزيز بن مروان بمصر وكتب إليه: يا أخي، إني قد بعثت إليك الشعبيّ، فانظر هل رأيت مثله قطَّ؟! ثم أذن فانصرفت.
(١) الحرض (بالتحريك) الرديء من الناس. يريد: أجعلهم بهجائي من أراذل الناس. والحرض يوصف به المفرد مذكرا ومؤنثا والمثنى والجمع بلفظ واحد لأنه مصدر. ويقال رجل حرض (بكسر الراء) وحارض؛ وهذان الوصفان مؤنثان ويثنيان ويجمعان.
(٢) في الأصول: «والناس». والتصويب من «أمالي السيد المرتضى» (ج ٣ ص ١٠٥).
(٣) هي ليلى أخت المنتشر بن وهب الباهلي - وقيل الدعجاء أخته - ترثيه بقصيدة منها هذان البيتان. والذي في «الكامل» للمبرد أن هذين البيتين من قصيدة لأعشى باهلة يرثي بها المنتشر هذا.
(٤) مهفهف الكشح: ضامره. وهفهفة السربال: رقته وخفته. ومنخرق عنه القميص أي «لا يبالي كيف كانت ثيابه لأنه لا يزين نفسه، إنما يزين حسبه ويصون كرمه. وقيل معناه أنه غليظ المناكب، وإذا كان كذلك أسرع الخرق إلى قميصه. وقيل:
أرادت أنه كثير الغزوات متصل الأسفار؛ فقميصه منخرق لذلك. بهذا شرح أبو زكريا التبريزي قول ليلى الأخيلية في» ديوان الحماسة «:
ومخرّق عنه القميص تخاله ... وسط البيوت من الحياء سقيما
(٥) رواية «الكامل» للشطر الأوّل من البيت الأوّل:
مهفهف أهضم الكشحين منخرق
وللشطر الثاني من البيت الثاني:
من كل أوب وإن لم يأت ينتظر
(٦) كذا في «ج»، و «أمالي السيد المرتضى». و «لم أفدك» جملة حالية وفي «أ، م»: «إلا أفدك إلا ...» وفي «ب، س»: «إني إن أحدثك» بزيادة «إن» قبل «أحدثك».
(٧) تراجع الحاشية رقم ٤ من ص ٢٥ من هذا الجزء.
(٨) في «ج»: «سنتين».