كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

أخبار النابغة ونسبه

صفحة 20 - الجزء 11

  حديث حسان عنه حين وفد على النعمان:

  أخبرني الحسين بن عليّ قال حدّثنا أحمد بن الحارث الخرّاز عن المدائنيّ، وأخبرني ببعضه أحمد بن عبد العزيز الجوهريّ قال حدّثني عمر بن شبّة عن أبي بكر الهذليّ قال:

  / قال حسّان بن ثابت: قدمت على النّعمان بن المنذر وقد امتدحته، فأتيت حاجبه عصام بن شهبر فجلست إليه، فقال: إنّي لأرى عربيا، أفمن الحجاز أنت؟ قلت نعم. قال: فكن قحطانيّا. فقلت: فأنا قحطانيّ. قال: فكن يثربيا.

  قلت: فأنا يثربيّ. قال: فكن خزرجيا. قلت: فأنا خزرجيّ. قال: فكن حسّان بن ثابت. قلت: فأنا هو. قال: أجئت بمدحة الملك؟ قلت نعم. قال: فإني أرشدك: إذا دخلت إليه فإنه يسألك عن جبلة بن الأيهم ويسبّه، فإيّاك أن تساعده على ذلك، ولكن أمرّ ذكره إمرارا لا توافق فيه ولا تخالف، وقل: ما دخول مثلي أيّها الملك بينك وبين جبلة وهو منك وأنت منه!. وإن دعاك إلى الطعام فلا تؤاكله، فإن أقسم عليك فأصب منه اليسير إصابة بارّ قسمه متشرّف بمؤاكلته لا أكل جائع سغب، ولا تطل محادثته، ولا تبدأه بإخبار عن شيء حتى يكون هو السائل لك، ولا تطل الإقامة في مجلسه. فقلت: أحسن اللَّه رفدك! قد أوصيت واعيا. ودخل ثم خرج إليّ فقال لي: ادخل. فدخلت فسلَّمت وحيّيت تحيّة الملوك. فجاراني من أمر جبلة ما قاله عصام كأنه / كان حاضرا، وأجبت بما أمرني، ثم استأذنته في الإنشاد فأذن لي فأنشدته. ثم دعا بالطعام، ففعلت ما أمرني عصام به، وبالشراب ففعلت مثل ذلك. فأمر لي بجائزة سنيّة وخرجت.

  فقال لي عصام: بقيت عليّ واحدة لم أوصك بها، قد بلغني أنّ النابغة الذّبيانيّ قدم⁣(⁣١) عليه، وإذا قدم فليس لأحد منه حظَّ سواه، فاستأذن حينئذ وانصرف مكرّما خير من أن تنصرف مجفوا، فأقمت ببابه شهرا. ثم قدم عليه الفزاريّان وكان بينهما وبين النعمان دخلل (أي خاصّة) وكان معهما النابغة قد استجار بهما / وسألهما مسألة النعمان أن يرضى عنه.

  فضرب عليهما قبّة من أدم، ولم يشعر بأنّ النابغة معهما. ودّس النابغة قينة تغنيّه بشعره:

  يا دار ميّة بالعلياء فالسّند

  فلمّا سمع الشعر قال: أقسم باللَّه إنه لشعر النابغة! وسأل عنه فأخبر أنه مع الفزارييّن، فكلَّماه فيه فأمنه.

  وقال أبو زيد عمر بن شبّة في خبره: لمّا صار معهما إلى النعمان كان يرسل إليهما بطيب وألطاف مع قينة من إمائه، فكانا يأمرانها أن تبدأ بالنابغة قبلهما. فذكرت ذلك للنّعمان، فعلم أنّه النابغة. ثم ألقى عليها شعره هذا وسألها أن تغنّيه به إذا أخذت فيه الخمر، ففعلت فأطربته، فقال: هذا شعر علويّ⁣(⁣٢)، هذا شعر النابغة!. قال: ثم خرج في غبّ سماء، فعارضه الفزاريّان والنابغة بينهما قد خضب بحنّاء فقنأ⁣(⁣٣) خضابه. فلما رآه النّعمان قال: هي بدم كانت أحرى أن تخضب. فقال الفزاريّان: أبيت اللَّعن! لا تثريب⁣(⁣٤)، قد أجرناه، والعفو أجمل. فأمّنه واستنشده أشعاره. فعند ذلك قال حسّان بن ثابت: فحسدته على ثلاث لا أدري على أيتّهن كنت له أشدّ حسدا:

  على إدناء النّعمان له بعد المباعدة ومسامرته⁣(⁣٥) له وإصغائه إليه، أم على جودة شعره، أم على مائة بعير من


(١) لعله «قادم عليه».

(٢) علوي (بالضم): نسبة إلى العالية على غير القياس، وهي ما فوق نجد إلى أرض تهامة إلى ما وراء مكة وقرى بظاهر المدينة.

(٣) في «الأصول»: «فأفنأ». والتصويب من كتب اللغة. وقنوه الخضاب: اشتداد حمرته.

(٤) التثريب: اللوم والتعيير بالذنب والتذكير به.

(٥) في «ج»: «ومسايرته له».