خبر الجحاف ونسبه وقصته يوم البشر
  لما صنعنا شيئا، فاتبعوه فإذا هو في دجلة يصيح بالناس - وتغلب قد رمت بأنفسها تعبر في الماء - فخرج من الماء وأقام في موضعه. فهذه الوقعة الحرجيّة لأنهم أحرجوا فألقوا أنفسهم في الماء. ثم وجّه يزيد بن حمران وتميم بن الحباب ومسلم بن ربيعة والهذيل بن زفر في أصحابه، وأمرهم ألَّا يلقوا أحدا إلا قتلوه، فانصرفوا من ليلتهم، وكلّ قد أصاب حاجته من القتل والمال، ثم مضى يستقبل الشّمال في جماعة من أصحابه، حتّى أتى رأس الأثيل، ولم يخلّ(١) بالكحيل أحدا - والكحيل على عشرة فراسخ من الموصل فيما بينها وبين الجنوب - فصعد قبل رأس الأثيل، فوجد به عسكرا من اليمن وتغلب، فقاتلهم بقية ليلتهم، فهربت تغلب وصبرت اليمن. وهذه الليلة تسميها تغلب ليلة الهرير. ففي ذلك يقول زفر بن الحارث، وقد ذكر أنها لغيره:
  ولمّا أن نعى النّاعي عميرا ... حسبت سماءهم دهيت بليل
  دهيت بليل، أي أظلمت نهارا كأن ليلا دهاها.
  /
  وكان النجم يطلع في قتام(٢) ... وخاف الذّلّ من يمن سهيل
  / وكنت قبيلها يا أمّ عمرو ... أرجّل لمّتي(٣) وأجرّ ذيلي
  فلو نبش المقابر عن عمير ... فيخبر من بلاء أبي الهذيل
  غداة يقارع الأبطال حتى ... جرى منهم دما مرج(٤) الكحيل
  قبيل ينهدون(٥) إلى قبيل ... تساقى الموت كيلا بعد كيل
  وفي ذلك يقول جرير يعيّر الأخطل:
  أنسيت يومك بالجزيرة بعد ما ... كانت عواقبه عليك وبالا!
  حملت عليك حماة قيس خيلها ... شعثا عوابس تحمل الأبطالا
  ما زلت تحسب كلّ شيء بعدهم ... خيلا تكرّ عليكم ورجالا
  زفر الرئيس أبو الهذيل أبادكم ... فسبى النساء وأحرز الأموالا
  أغراه الأخطل بشعره بأخذ الثار من تغلب ففعل وفر إلى الروم
  فلما أن كانت سنة ثلاث وسبعين، وقتل عبد اللَّه بن الزبير هدأت الفتنة واجتمع الناس على عبد الملك بن مروان، وتكافّت قيس وتغلب عن المغازي بالشام والجزيرة، وظنّ كلّ واحد من الفريقين أنّ عنده فضلا لصاحبه، وتكلم عبد الملك في ذلك ولم يحكم الصلح فيه، فبيناهم على تلك الحال إذ أنشد الأخطل عبد الملك بن مروان وعنده وجوه قيس قوله:
  ألا سائل الجحاف هل هو ثائر ... بقتلى أصيبت من سليم وعامر
  !
(١) كذا في معظم الأصول، وفي ف: «لم يخلف أحدا»، وفي ج: «لم يتخلف أحد».
(٢) القتام: الغبار. وفي البيت إقواه.
(٣) اللمة: الشعر المجاوز شحمة الأذن.
(٤) المرج: الفضاء أو أرض ذات كلأ ترعى فيها الدواب.
(٥) ينهدون: ينهضون.