أخبار أبي الأسود الدؤلي ونسبه
  كان أبو الأسود له على باب داره دكَّان يجلس عليه، مرتفع عن الأرض إلى قدر صدر الرجل، فكان يوضع بين يديه خوان على قدر الدكان، فإذا مرّ به مارّ فدعاه إلى الأكل لم يجد موضعا يجلس فيه، فمرّ به ذات يوم فتى فدعاه إلى الغداء، فأقبل فتناول الخوان فوضعه أسفل، ثم قال له: يا أبا الأسود، إن عزمت على الغداء فانزل، وجعل يأكل وأبو الأسود ينظر إليه مغتاظا حتى أتى على الطعام، فقال له أبو الأسود: ما اسمك يا فتى؟ قال: لقمان الحكيم، قال: لقد أصاب أهلك حقيقة اسمك.
  قال المدائني: وبلغني أنّ رجلا دعاه أبو الأسود إلى طعامه وهو على هذا الدكان، فمدّ يده ليأكل، فشب به فرسه فسقط عنه / فوقص(١).
  كان أبو الجارود صديقا له فلما ولى ولاية جفاه فقال فيه شعرا
  أخبرني هاشم بن محمد قال حدّثنا دماذ عن أبي عبيدة قال:
  كان أبو الجارود سالم بن سلمة بن نوفل الهذليّ صديقا لأبي الأسود، يهاديه الشعر، ويجيب كل واحد منهما صاحبه، ويتعاشران ويتزاوران، فولى أبو الجارود ولاية، فجفا أبا الأسود وقطعه، ولم يبدأه بالمكاتبة ولا أجابه عنها، فقال فيه أبو الأسود:
  أبلغ أبا الجارود عني رسالة ... يروح بها الغادي لربعك أو يغدو
  فيخبرنا ما بال صرمك بعد ما ... رضيت وما غيّرت من خلق بعد
  أأن نلت خيرا سرّني أن تناله ... تنكَّرت حتى قلت ذو لبدة ورد(٢)؟
  فعيناك عيناه وصوتك صوته ... تمثّله لي غير أنك لا تعدو
  لئن كنت قد أزمعت بالصّرم بيننا ... لقد جعلت أشراط أوّله تبدو(٣)
  فإني إذا ما صاحب رثّ وصله ... وأعرض عني قلّ مني له الوجد
  خبره مع الحارث بن خليد وشعره فيه
  قال المدائنيّ: كان لأبي الأسود صديق يقال له الحارث بن خليد، وكان في شرف من العطاء، فقال لأبي الأسود: ما يمنعك من طلب الديوان؟ فإنّ فيه غنى وخيرا، فقال له أبو الأسود: قد أغناني اللَّه عنه بالقناعة والتجمل، فقال: كلا، ولكنك تتركه إقامة على محبة ابن أبي طالب وبغض هؤلاء القوم. وزاد الكلام بينهما، حتى أغلظ له الحارث بن خليد، فهجره أبو الأسود، وندم الحارث على ما فرط منه، فسأل عشيرته أن تصلح بينهما، فأتوا أبا الأسود في ذلك وقالوا له: قد اعتذر إليك الحارث مما فرط منه وهو رجل حديد(٤)، فقال أبو الأسود في ذلك:
(١) وقص: دقت عنقه وكسرت.
(٢) اللبدة: الشعر المتراكب بين كتفي الأسد. والورد: الأسد.
(٣) أشراط: جمع شرط، كسبب؛ وهو العلامة.
(٤) حديد: حادّ اللسان.