أخبار عثعث
  فأسكتت(١) عريب، ثم قالت لأبي عيسى: أحب يا بنيّ(٢) - فديتك - أن تبعث إلى عثعث فتجيئني به، فوجّه إليه، فحضر وجلس، فلما اطمأن وشرب وغنّى، قالت له: يا أبا دليجة أو تذكر صوت زبير بن دحمان عندي وأنت حاضر، فسألته أن يطرحه عليك؟ قال: وهل تنسى العذراء أبا عذرها(٣)، نعم، واللَّه إني لذاكره حتّى كأننا أمس افترقنا عنه. قالت: فغنّه، فاندفع فغنّى الصوت الَّذي ادّعته شارية حتى استوفاه / وتضاحكت عريب، ثم قالت لجواريّها: خذوا في الحقّ، ودعونا من الباطل، وغنّوا الغناء القديم. فغنّت بدعة وسائر جواري عريب، وخجلت شارية وأطرقت وظهر الانكسار فيها، ولم تنتفع هي يومئذ بنفسها، ولا أحد من جواريّها ولا متعصّبيها أيضا بأنفسهم.
  غناؤه في مجلس المتوكل
  قال: وحدّثني يحيى بن حمدون قال: قال لي عثعث الأسود: دخلت يوما على المتوكَّل وهو مصطبح وابن المارقيّ يغنّيه قوله:
  أقاتلتي بالجيد والقدّ والخدّ ... وباللون في وجه أرقّ من الورد
  وهو على البركة جالس، قد طرب واستعاده الصوت مرارا وأقبل عليه، فجلست ساعة ثم قمت لأبول، فصنعت هزجا في شعر البحتريّ الَّذي يصف فيه البركة:
  صوت
  إذا النجوم تراءت في جوانبها ... ليلا حسبت سماء ركَّبت فيها
  وإن علتها الصّبا أبدت لها حبكا ... مثل الجواشن مصقولا حواشيها(٤)
  وزادها زينة من بعد زينتها ... أن اسمه يوم يدعى من أساميها
  فما سكت ابن المارقي سكوتا مستوجبا حتى اندفعت أغنّي هذا الصوت، فأقبل عليّ وقال لي: أحسنت وحياتي، أعد، فأعدت، فشرب قدحا، ولم يزل يستعيدنيه ويشرب حتى اتكأ، ثم قال للفتح: بحياتي ادفع إليه الساعة ألف دينار وخلعة تامّة واحمله على شهري(٥) فاره بسرجه ولجامه، فانصرفت بذلك أجمع.
  نسبة ما في هذه الأخبار من الغناء
  صوت
  أعاذلتي أكثرت جهلا من العذل ... على غير شيء من ملامي ولا عذلي
(١) يقال: تكلم ثم سكت بغير ألف، فإذا انقطع كلامه فلم يتكلم قيل أسكت.
(٢) هكذا في ج. وفي ب، س: «بأبي فديتك».
(٣) العذرة بالضم: البكارة، وهو أبو عذرها وأبو عذرتها: إذا كان قد افتضها.
(٤) الصبا: الريح تهب من مطلع الشمس. والحبك: التكسر الَّذي يبدو على الماء إذا مرت به الريح. والجواشن: جمع جوشن، وهو الدرع.
(٥) الشهرية: ضرب من البراذين. الفاره: الجيّد السير.