ذكر أحيحة بن الجلاح ونسبه وخبره والسبب الذي من أجله قال الشعر
  وكانت الآطام هي عزّهم ومنعتهم وحصونهم التي يتحرّزون فيها من عدوّهم. ويزعمون أنّه لما بناه أشرف هو وغلام له، ثم قال: لقد بنيت حصنا حصينا ما بنى مثله رجل من العرب أمنع ولا أكرم، ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع لوقع جميعا! فقال غلامه: أنا أعرفه. فقال: فأرنيه يا بنيّ. قال: هو هذا. وصرف إليه رأسه، فلما رأى أحيحة أنّه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات، وإنّما قتله إرادة ألَّا يعرف ذلك الحجر أحد. ولمّا بناه قال:
  بنيت بعد مستظلّ ضاحيا ... بنيته بعصبة(١) من ماليا
  والسرّ مما يتبع القواصيا(٢) ... أخشى ركيبا أو رجيلا عاديا(٣)
  وكان أحيحة إذا أمسى جلس بحذاء حصنه الضّحيان، ثم أرسل كلابا له تنبح دونه على من يأتيه ممّن لا يعرف، حذرا أن يأتيه عدوّ يصيب منه غرّة؛ فأقبل عاصم بن عمرو يريده في مجلسه ذلك ليقتله بأخيه، وقد أخذ معه تمرا، فلما نجته / الكلاب حين دنا منه ألقى لها التمرّ فوقفت، فلمّا رآها أحيحة قد سكنت حذر فقام فدخل حصنه، ورماه عاصم بسهم فأحرزه منه الباب(٤)، فوقع السّهم بالباب، فلما سمع أحيحة وقع السّهم صرخ في قومه، فخرج عاصم بن عمرو، فأعجزهم حتّى أتى قومه. ثمّ إنّ أحيحة جمع لبني النجّار، فأراد أن يغترّهم فواعدهم وقومه لذلك(٥)، وكانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى نساء بني عديّ بن النجار، له منها عمرو بن أحيحة، وهي أمّ عبد المطلب بن هاشم، خلف عليها هاشم بعد أحيحة، وكانت امرأة شريفة لا تنكح الرجال إلَّا وأمرها بيدها، إذا كرهت من رجل شيئا تركته.
  فزعم ابن إسحاق أنّه حدّثه أيوب بن عبد الرحمن(٦)، وهو أحد رهطها، قال: حدّثني شيخ منّا أنّ أحيحة لمّا أجمع بالغارة على قومها ومعها ابنها عمرو بن أحيحة، وهو يومئذ فطيم أو دون الفطيم، وهو مع أحيحة في حصنه عمدت إلى ابنها فربطته بخيط، حتّى إذا أوجعت الصبيّ تركته فبات يبكي، وهي تحمله؛ وبات أحيحة معها ساهرا، يقول: ويحك ما لابني؟ فتقول: واللَّه ما أدري ماله. حتّى إذا ذهب اللَّيل أطلقت الخيط عن الصبيّ فنام. وذكروا أنّها ربطت رأس ذكره، فلما هدأ الصبيّ قالت: وا رأساه! فقال: أحيحة: هذا واللَّه ما لقيت من سهر هذه الليلة.
  فبات يعصب لها رأسها ويقول: ليس بك بأس. حتّى إذا لم يبق من الليل إلا أقلَّه قالت له: قم فنم، فإنّي أجدني(٧) صالحة قد ذهب عنّي ما كنت / أجده. وإنما فعلت به ذلك ليثقل رأسه، وليشتدّ نومه على طول السّهر. فلما نام قامت وأخذت حبلا شديدا وأوثقته برأس الحصن، ثم تدلَّت منه وانطلقت إلى قومها، فأنذرتهم وأخبرتهم بالذي أجمع هو وقومه من ذلك، فحذر القوم وأعدّوا واجتمعوا. فأقبل أحيحة في قومه فوجد القوم على حذر قد
(١) ط، مب، مط: «بقودة».
(٢) ما عدا ط، ح، مب، مط: «للستر مما يتبع القواصيا».
(٣) الركيب: مصغر ركب، وهم الجماعة الراكبون. والرجيل: مصغر الرجل، بالفتح، وهم الجماعة الراجلون.
(٤) هذا الصواب من ح، ط، مب، مط. وفي سائر النسخ: «فأحرز منه الباب».
(٥) فيما عدا ط، ح، مب، مط: «فواعده قومه لذلك».
(٦) ما عدا ط، ح، مب، مط: «أن جدّه أيوب بن عبد الرحمن»، تحريف.
(٧) ما عدا ط، ح، مب، مط: «أجد في صالحة» محرّف.