ذكر الكميت ونسبه وخبره
  والفتيان بين يديه إلى سكَّة شبيب بناحية الكناسة(١)، فمرّ بمجلس من مجالس بني تميم، فقال بعضهم: رجل وربّ الكعبة. وأمر غلامه فاتّبعه، فصاح به أبو الوضّاح: يا كذا وكذا، لا أراك تتبع هذه المرأة منذ اليوم. وأوّمأ إليه بنعله، فولَّى العبد مدبرا، وأدخله أبو الوضّاح منزله.
  كشف أمره
  ولمّا طال على السجّان الأمر نادى الكميت فلم يجبه، فدخل ليعرف خبره، فصاحت به المرأة: وراءك، لا أمّ لك! فشقّ ثوبه، ومضى صارخا إلى بابا خالد، فأخبره الخبر، فأحضر حبّي فقال لها: يا عدوّة اللَّه، احتلت على أمير المؤمنين، وأخرجّت عدوّه، لأمثّلنّ بك ولأصنعنّ ولأفعلنّ. فاجتمعت بنو أسد إليه. وقالوا: ما سبيلك على امرأة منّا خدعت. فخافهم فخلَّى سبيلها.
  خبرته بزجر الطير
  قال: وسقط غراب على الحائط فنعب، فقال الكميت لأبي وضّاح: إني لمأخوذ، وإنّ حائطك لساقط. فقال:
  سبحان اللَّه! هذا ما لا يكون إن شاء اللَّه. فقال له: لا بدّ من أن تحوّلني. فخرج به إلى بني علقمة - وكانوا يتشيّعون - فأقام فيهم ولم يصبح حتى سقط الحائط الذي سقط عليه الغراب.
  خروجه إلى الشأم
  قال ابن الأعرابيّ: قال المستهلّ: وأقام الكميت مدة متواريا، حتى إذا أيقن أنّ الطلب قد خفّ عنه خرج ليلا في جماعة من بني أسد، على خوف ووجل، وفيمن معه صاعد غلامه، قال: وأخذ الطريق على القطقطانة(٢) - وكان عالما بالنجوم مهتديّا بها - فلما صار سحير(٣) صاح بنا: هوّموا(٤) يا فتيان، فهوّ منا، وقام يصلَّي.
  أطعم ذئبا فهداه الطريق
  قال المستهلّ: فرأيت شخصا فتضعضعت له، فقال: ما لك؟ قلت: أرى شيئا مقبلا، فنظر إليه فقال: هذا ذئب قد جاء يستطعمكم، فجاء الذئب فربض ناحية، فأطعمناه يد جزور، فتعرّقها، ثم أهوينا له بإناء فيه ماء فشرب منه، وارتحلنا، فجعل الذئب يعوي، فقال الكميت: ما له ويله! ألم نطعمه ونسقه! وما أعرفني بما يريد! هو يعلمنا أنّا لسنا على الطريق؛ تيامنوا يا فتيان، فتيامنّا فسكن عواؤه.
  تواريه وسعي رجالات قريش في خلاصه
  فلم نزل نسير حتى جئنا الشام، فتوارى في بني أسد وبني تميم، وأرسل إلى أشراف قريش - وكان سيّدهم يومئذ عنبسة بن سعيد بن العاص - فمشت رجالات قريش بعضها إلى بعض، وأتوا عنبسة، فقالوا: يا أبا خالد، هذه مكرمة قد أتاك اللَّه بها، هذا الكميت بن زيد لسان مضر، وكان أمير المؤمنين كتب في قتله، فنجا حتى تخلَّص إليك
(١) في ب والمختار: «الكناس»، والكناسة: محلة بالكوفة، وكناس: موضع في بلا غني. (ياقوت).
(٢) القطقطانة: موضع بالكوفة، كان به سجن للنعمان بن المنذر.
(٣) صار هنا تامة.
(٤) هوّموا: ناموا نوما خفيفا؛ يريد: استريحوا، وأغفوا إغفاءة.