كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر المائة الصوت المختارة

صفحة 44 - الجزء 1

  ابن جامع، فدخل عليه أبي وأنا معه، فقال: يا أبا القاسم، قد جئتك في حاجة، فإن شئت فاشتمني، وإن شئت فاقذفني، غير أنه لا بدّ لك من قضائها. هذا عبدك وابن أخيك إسحاق قال لي كذا وكذا، فركبت معه أسألك أن / تسعفه فيما سأل. فقال: نعم، على شريطة: تقيمان عندي أطعمكما مشوشة⁣(⁣١) وقليّة⁣(⁣٢) وأسقيكما من نبيذي التّمريّ وأغنّيكما، فإن جاءنا رسول الخليفة مضينا إليه وإلَّا أقمنا يومنا. فقال أبي: السمع والطاعة، وأمر بالدوابّ فردّت. فجاءنا ابن جامع بالمشوشة والقليّة ونبيذه التمريّ فأكلنا وشربنا، ثم اندفع فغنّانا، فنظرت إلى أبي يقلّ في عيني ويعظم ابن جامع حتى صار أبي في عيني كلا شيء. فلما طربنا⁣(⁣٣) غاية الطَّرب جاء رسول الخليفة فركبا وركبت معهما. فلما كنا في بعض الطريق قال لي أبي: كيف رأيت ابن جامع يا بنيّ؟ قلت له: أو تعفيني جعلت فداك! قال: لست أعفيك فقل. فقلت له: رأيتك ولا شيء أكبر عندي منك قد صغرت عندي في الغناء معه حتى صرت كلا شيء. ثم مضيا إلى الرشيد، وانصرفت إلى منزلي؛ وذلك لأني لم أكن بعد وصلت إلى الرشيد. فلما أصبحت أرسل إليّ أبي فقال: يا بنيّ، هذا الشتاء قد هجم عليك وأنت تحتاج فيه إلى مؤنة⁣(⁣٤)، / وإذا مال عظيم بين يديه، فاصرف هذا المال في حوائجك. فقمت فقبّلت يده ورأسه وأمرت بحمل المال واتّبعته، فصوّت بي:

  يا إسحاق ارجع، فرجعت. فقال لي: أتدري لم وهبت لك هذا المال؟ قلت: نعم، جعلت فداك! قال: لم؟ قلت:

  لصدقي فيك وفي ابن جامع. قال: صدقت يا بنيّ، امض راشدا. ولهما في هذا الجنس أخبار كثيرة تأتي في غير هذا الموضع متفرقة في أماكن تحسن فيها و [لا] يستغني بما ذكر ها هنا عنها. فإبراهيم يحلّ ابن جامع هذا المحلّ مع ما كان بينهما / من المنافسة والمفاخرة ثم يقدم على أن يختار فيما هو معه فيه صوتا لنفسه يكون مقدّما على سائر الغناء، ويطابقه هو وفليح عليه! هذا خطأ لا يتخيّل. وعلى ما به فإنّا نذكر الصوتين اللذين رويناهما عن جحظة المخالفين لرواية يحيى بن عليّ، بعد ذكرنا ما رواه يحيى، ثم نتبعهما باقي الاختيار⁣(⁣٥). فأوّل ذلك من رواية أبي الحسن عليّ بن يحيى.

  الكلام على أحد هذه الأصوات الثلاثة صوت فيه لحنان

  القصر فالنّخل فالجمّاء بينهما ... أشهى إلى القلب من أبواب جيرون

  إلى البلاط فما حازت قرائنه ... دور نزحن عن الفحشاء والهون

  قد يكتم الناس أسرارا فأعلمها ... ولا ينالون حتى الموت مكنوني

  عروضه من أوّل البسيط. القصر الذي عناه ها هنا: قصر سعيد بن العاص بالعرصة. والنخل الذي عناه: نخل كان لسعيد هناك بين قصره وبين الجمّاء وهي أرض كانت له، فصار جميع ذلك لمعاوية بن أبي سفيان بعد وفاة سعيد،


(١) زيت يضرب مع بياض البيض فيصنع منه طعام دسم أه عن «قاموس ستينجاس» المطبوع في لندن.

(٢) «القلية كغنية: مرقة تتخذ من أكباد الجزور ولحومها، وقد قليتها قليا: أنضجتها في المقلاة، والقلَّاء: من حرفته ذلك». انظر «تاج العروس» للسيد مرتضى (مادة قلى) و «المخصص» لابن سيده ج ٤ ص ١٢٦.

(٣) في ت: «فلما طربنا عليه الطرب الكثير».

(٤) كذا في ت، ح، ر. وفي سائر النسخ: «معونة».

(٥) في ت: «الأخبار».