ذكر مخارق وأخباره
  بالمال فأحضر، وأمر بثلاثة آلاف درهم فزيدت عليه، وقال: تكون هذه لهديّة تهدينها أو كسوة تكتسينها، ولا تثلمين المال.
  وراح إلى الفضل بن يحيى فقال له: ما خبر غلام بلغني أنك اشتريته؟ قال: هو ما بلغك، قال: فأرنيه، فأحضره، فلما تغنّى بين يدي الفضل قال له: ما أرى فيه الذي رأيت، قال: أنت تريد أن يكون في الغناء مثلي في ساعة واحدة، ولم يكن مثله في الدّنيا ولا يكون أبدا. فقال: بكم تبيعه؟ فقال: اشتريته بثلاثة وثلاثين ألف درهم، وهو حرّ لوجه اللَّه تعالى إن بعته إلا بثلاثة وثلاثين ألف دينار، فغضب الفضل وقال: إنما أردت أن تمنعنيه أو تجعله سببا لأن تأخذ منّي ثلاثة وثلاثين ألف دينار، فقال له: أنا أصنع بك خصلة؛ أبيعك نصفه بنصف هذا المال، وأكون شريكك في نصفه وأعلَّمه، فإن أعجبك إذا علَّمته أتممت لي باقي المال. وإلا بعته بعد ذلك وكان الرّبح بيني وبينك. فقال له الفضل: إنما أردت أن تأخذ منّي المال الذي قدّمت ذكره، فلما لم تقدر على ذلك أردت أن تأخذ نصفه.
  / وغضب، فقال له إبراهيم: فأنا أهبه لك، على أنه يساوي ثلاثة وثلاثين ألف دينار، قال: قد قبلته، قال:
  قد وهبته لك، وغدا إبراهيم على الرّشيد، فقال له: يا إبراهيم ما غلام بلغني أنك وهبته للفضل؟ قال: فقلت: غلام يا أمير المؤمنين لم تملك العرب ولا العجم مثله، ولا يكون مثله أبدا، قال: فوجّه إلى الفضل فأمره بإحضاره، فوجّه به إليه فتغنّى بين يديه، فقال لي: كم يساوي؟ قال: قلت: يساوي خراج مصر وضياعها.
  فقال لي: ويلك، أتدري ما تقول! مبلغ هذا المال كذا وكذا، فقلت: وما مقدار هذا المال في شيء لم يملك أحد مثله قطَّ! قال: فالتفت إلى مسرور الكبير وقال:
  قد عرفت يميني ألَّا أسأل أحدا من البرامكة شيئا بعد فنفنة(١)، فقال مسرور: فأنا أمضي إلى الفضل فأستوهبه منه، فإذا وهبه لي وكان عبدي فهو عبدك، فقال له: شأنك. فمضى مسرور إلى الفضل فقال له: قد عرفتم ما وقعتم فيه من أمر فنفنة(١)، وإن منعتموه هذا الغلام قامت القيامة، واستوهبه منه فوهبه له، فبلغ ما رأيت. فكان علَّوية إذا غضب على مخارق يقول له - حيث يقول: أنا مولى أمير المؤمنين - متى كنت كذلك؟ إنما أنت عبد الفضل بن يحيى أو مولى مسرور.
  سبب تلقيب أبيه بناووس
  أخبرني ابن أبي الأزهر، قال: حدّثنا حمّاد بن إسحاق، عن أبيه قال:
  كان مخارق بن ناووس الجزّار؛ وإنما لقّب بناووس لأنه بايع رجلا أنه يمضي إلى ناووس(٢) الكوفة فيطبخ فيه قدرا بالليل حتى تنضج، فطرح رهنه بذلك، فدسّ الرجل الذي راهنه رجلا، فألقى نفسه في النّاووس(٢) بين الموتى، فلمّا فرغ من الطَّبيخ(٣) / مدّ الرّجل يده من بين الموتى وقال له: أطعمني، فغرف ملء المغرفة من المرقة فصبّها في يد الرجل فأحرقها، وضربها بالمغرفة وقال له: اصبر حتى نطعم الأحياء أولا ثم نتفرّغ للموتى، فلقّب بناووس لذلك، فنشأ ابنه مخارق، وكان ينادي عليه إذا باع الجزور، فخرج له صوت عجيب، فاشتراه أبي وأهداه
(١) «المختار»، «قنقنة»، ولعله خادم أو جارية.
(٢) الناووس: مقبرة النصارى.
(٣) ف، «التجريد»: «فلما فرغ ناووس من طبيخه».