ذكر مخارق وأخباره
  للرّشيد فأمره بتعليمه فعلَّمه حتى بلغ المبلغ الذي بلغه.
  غنى لرشيد بعد ابن جامع ففاقه
  وكان يقف بين يدي الرّشيد مع الغلمان لا يجلس، ويغنّي وهو واقف، فغنّى ابن جامع ذات يوم بين يدي الرّشيد:
  كأنّ نيراننا في جنب قلعتهم ... مصبّغات على أرسان قصّار(١)
  هوت هرقلة لمّا أن رأت عجبا ... حوائما(٢) ترتمي بالنّفط والنّار
  فطرب الرشيد واستعاده عدّة مرّات، وهو شعر مدح به الرشيد في فتح هرقلة، وأقبل يومئذ على ابن جامع دون غيره، فغمز مخارق إبراهيم بعينه، وتقدّمه إلى الخلاء، فلما جاءه قال له: ما لي أراك منكسرا(٣)؟ قال: أما ترى إقبال أمير المؤمنين على ابن جامع بسبب هذا الصوت؟ فقال: قد واللَّه أخذته، فقال له: ويحك إنه الرّشيد، وابن جامع من تعلم، ولا يمكن معارضته إلا بما يزيد على غنائه، وإلا فهو الموت، وقال: دعني وخلاك ذمّ، وعرّفه أنّي أغنّي به، فإن أحسنت فإليك ينسب، وإن أسأت فإليّ يعود(٤). فقال للرّشيد: يا أمير المؤمنين، أراك متعجبا من هذا / الصوت بغير ما يستحقه وأكثر ممّا يستوجبه، فقال: لقد أحسن ابن جامع ما شاء، قال: أو لابن جامع هو؟ قال: نعم، كذا ذكر، قال له: فإن عبدك مخارقا يغنّيه، فنظر إلى مخارق، فقال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: هاته، فغنّاه وتحفّظ فيه، فأتى بالعجائب؛ فطرب الرّشيد حتى كاد يطير فرحا، وشرب، ثم أقبل على ابن جامع فقال له: ويلك، ما هذا! فابتدأ يحلف له بالطَّلاق وكلّ محرجة أنّه لم يسمع ذلك الصوت قطَّ إلَّا منه، ولا صنعه غيره، وأنها حيلة جرت عليه، فأقبل على إبراهيم وقال: أصدقني بحياتي، فصدقه(٥) عن قصّة مخارق، فقال له: أكذلك هو يا مخارق؟ قال: نعم يا مولاي، فقال: اجلس إذن مع أصحابك، فقد تجاوزت مرتبة من يقوم، وأعتقه ووصله بثلاثة آلاف دينار، وأقطعه ضيعة ومنزلا.
  كان سبب عتقه وغناه لحنا غناه أمام الرشيد
  أخبرني محمد بن خلف وكيع، وحدّثني محمد بن خلف بن المرزبان، قال وكيع: حدّثني هارون بن مخارق، وقال ابن المرزبان: ذكر هارون بن مخارق، قال:
  كان أبي إذا غنّى هذا الصوت:
  يا ربع سلمى لقد هيّجت لي طربا ... زدت الفؤاد على علَّاته وصبا(٦)
  ربع تبدّل ممّن كان يسكنه ... عفر الظَّباء وظلمانا به عصبا(٧)
(١) المصبغات: الملونات، والأرسان من الأرض: الحزنة. والقصار: المبيض الثياب.
(٢) «المختار»: «جواثما». وجاء البيت الثاني في «التجريد» مكان الأول.
(٣) ف: «ما لي رأيتك مفكرا».
(٤) «التجريد»، ف: «وإن أسأت فعليّ يعود».
(٥) «المختار»: «فصدق».
(٦) ف: «نصبا».
(٧) العصب: جمع عصبه، وهي الجماعة.