كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر مخارق وأخباره

صفحة 490 - الجزء 18

  حلفت بالطلاق ثلاثا أنّي أسمعه منك، قال: وما هو؟ قال لحنك:

  أبلغ سلامة أنّ البين قد أفدا⁣(⁣١) ... وأنّ صحبك عنها رائحون غدا

  هذا الفراق يقينا إن صبرت له ... أو لا فإنّك منها ميّت كمدا

  لا شكّ أنّ الذي بي سوف يهلكني ... إن كان أهلك حبّ قبله أحدا

  / فغنّاه إيّاه مخارق وسقاه رطلا، وقال له: احذر ويلك أن تعاود، فانصرف. ولم تلبث أن عاودت الصّياح تصرخ: يا سيّدي، قد عاود اليمين ثلاثة، اللَّه اللَّه فيّ وفي أولادي، قال: هاتيه، فأحضرته، فقال لها: انصرفي أنت، فإن هذا كلما انصرف حلف وعاد، فدعيه يقيم يومه كلَّه، فتركته وانصرفت، فقال له مخارق: ما قصّتك أيضا؟ قال:

  قد عرّفتك يا سيّدي أنّني رجل طروب، وكنت سمعت صوتا من صنعتك فاستخفّني الطَّرب له فحلفت أنّي أسمعه منك، قال: وما هو؟ قال:

  ألف الظَّبي بعادي ... ونفى الهمّ رقادي

  وعدا الهجر على الوص ... ل بأسياف حداد

  قل لمن زيّف ودّي: ... لست أهلا لودادي

  قال: فغنّاه إيّاه وسقاه رطلا، ثم قال: يا غلام، مقارع، فجيء بها، فأمر به فبطح، وأمر بضربه فضرب خمسين مقرعة، وهو يستغيث فلا يكلَّمه، ثم قال له: احلف بالطَّلاق أنك لا تذكرني أبدا، وإلَّا كان هذا دأبك إلى الليل، فحلف بالطَّلاق ثلاثا على ما أمره به، ثمّ أقيم فأخرج عن الدار، فجعلنا نضحك بقيّة يومنا من حمقه.

  أشرف من بيته على القبور وغنى باكيا

  أخبرني عمّي، قال: حدّثنا عبد اللَّه بن أبي سعد، قال: حدّثنا أحمد بن محمد، قال: حدّثني إسحاق بن عمر بن بزيع، قال:

  أتيت مخارقا ذات يوم ومعي زرزور الكبير لنقيم عنده، فوجدته قد أخرج رأسه من جناح له، وهو مشرف على المقابر يغنّي هذا البيت ويبكي:

  أين الملوك التي كانت مسلَّطة

  قال: فاستحسنّا ما سمعناه منه استحسان من لم يسمع قطَّ غناء غيره، فقال / لنا: انصرفوا، فليس فيّ فضل اليوم بعد ما رأيتم. قال محمد: وكان واللَّه مخارق ممّن لو تنفّس لأطرب من يسمعه استماع نفسه.

  سمعت الظباء غناءه فوقفت بالقرب منه مصغية

  وذكر محمد بن الحسن الكاتب أنّ محمد بن أحمد بن يحيى المكَّيّ حدّثه عن أبيه قال:

  خرج مخارق مع بعض إخوانه إلى بعض المتنزّهات، فنظر إلى قوس مذهبة مع أحد من خرج معه، فسأله إيّاها، فكأنّ المسؤول ضنّ بها. قال: وسنحت ظباء بالقرب منه، فقال لصاحب القوس: أرأيت إن تغنّيت صوتا فعطفت عليك به خدود هذه الظباء، أتدفع إليّ هذه القوس؟ قال: نعم، فاندفع يغني.


(١) أفد: دنا أو عجل.