كتاب الأغاني،

أبو الفرج الأصبهاني (المتوفى: 356 هـ)

ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة

صفحة 40 - الجزء 21

٦ - ذكر نتف من أخبار عريب مستحسنة

  منزلتها في الغناء والأدب

  : كانت عريب مغنّية محسنة، وشاعرة صالحة الشعر، وكانت مليحة الخط والمذهب في الكلام، ونهاية في الحسن والجمال والظَّرف، وحسن الصورة وجودة الضّرب، وإتقان الصنعة والمعرفة بالنّغم والأوتار، والرواية للشعر والأدب، لم يتعلق بها أحد من نظرائها، ولا روئي في النساء بعد القيان الحجازيّات القديمات، مثل جميلة وعزّة الميلاء وسلَّامة الزرقاء ومن جرى مجراهن - على قلة عددهن - نظير لها، وكانت فيها من الفضائل التي وصفناها ما ليس لهنّ مما يكون لمثلها من جواري الخلفاء، ومن نشأ في قصور الخلافة وغذّي برقيق العيش، الذي لا يدانيه عيش الحجاز، والنش بين العامة والعرب الجفاة، ومن غلظ طبعه، وقد شهد لها بذلك من لا يحتاج مع شهادته إلى غيره.

  أخبرني محمد بن خلف وكيع، عن حماد بن إسحاق: قال: قال لي أبي:

  ما رأيت امرأة أضرب من عريب، ولا أحسن صنعة ولا أحسن وجها، ولا أخفّ روحا، ولا أحسن خطابا، ولا أسرع جوابا، ولا ألعب بالشّطرنج والنّرد، ولا أجمع لخصلة حسنة لم أر مثلها في امرأة غيرها. قال حمّاد:

  فذكرت ذلك ليحيى بن أكثم في حياة أبي، فقال: صدق أبو محمد، هي كذلك، قلت: أفسمعتها؟ قال: نعم هناك، يعني في دار المأمون، قلت: أفكانت كما ذكر أبو محمد في الحذق؟ فقال يحيى: هذه مسألة الجواب فيها على أبيك، فهو أعلم مني بها، فأخبرت بذلك أبي، فضحك، ثم قال: ما استحييت من قاضي القضاة أن تسأله عن مثل هذا.

  هي وإسحاق والخليفة المعتصم

  : أخبرنا يحيى بن علي بن يحيى: قال: حدثني أبي، قال:

  قال لي إسحاق: كانت عندي صنّاجة⁣(⁣١) كنت بها معجبا، واشتهاها أبو إسحاق المعتصم في خلافة المأمون، فبينا أنا ذات يوم في منزلي، إذ أتاني إنسان يدقّ الباب دقّا / شديدا، فقلت: انظروا من هذا؟ فقالوا: رسول أمير المؤمنين، فقلت: ذهبت صنّاجتي، تجده ذكرها له ذاكر، فبعث إليّ فيها. فلمّا مضى بي الرسول انتهيت إلى الباب، وأنا مثخن، فدخلت، فسلَّمت، فردّ عليّ السلام، ونظر إلى تغيّر وجهي، فقال لي: أسكن، فسكنت، فقال لي:

  غنّ صوتا⁣(⁣٢) وقال لي: أتدري لمن هو؟ فقلت: أسمعه، ثم أخبر أمير المؤمنين إن شاء اللَّه ذلك، فأمر جارية من وراء الستارة، فغنّته وضربت، فإذا هي قد شبّهته بالغناء القديم، فقلت: زدني معها عودا آخر، فإنه أثبت لي، فزادني عودا آخر، / فقلت: هذا الصوت محدث لامرأة ضاربة، قال: من أين قلت ذاك؟ قلت: لمّا سمعت لينه


(١) الصناجة: آلة موسيقية ذات أوتار.

(٢) ف، مم: «فسألني عن صوت».